وما أحوجنا في الكويت في بداية الشهر الفضيل إلى الهداية والتمسك بالحكمة والموعظة الحسنة. ما أحوجنا إلى الخطاب الرقيق اللطيف الجاذب الذي يقرب ولا ينفر. ما أحوجنا إلى احترام الآخر بكل قناعاته وأفكاره ومجادلته بالتي هي أحسن إن اقتضى الأمر الجدال. ما أحوجنا إلى الكلمة الطيبة التي هي مثل شجرة طيبة، استلهاماً لقوله جل جلاله:«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ»، وقوله تعالى: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ».
نتحدث عن الهداية ليس لأننا رجال دين ووعّاظ ومشايخ وعلماء، وليس من باب المحاضرة الشرعية في هذا الشهر الفضيل حيث تكثر الأدعية والأذكار والصلوات… بل نتحدث عن الهداية من باب التمنيات بأن تسود لغة العقل فوق كل اللغات، وأن ترتفع آداب الحوار على ما عداها من انحرافات، وأن يدرك كل واحد منا أن الله يهدي من يشاء فلا يدّعي احتكار الإيمان والطهارة والنقاء بل يعمل بهدي المبادئ والمسلمات ويترك الباب مفتوحاً لحق الجميع في إبداء الرأي وحرية الاقتناع.
أقول ذلك بعدما كثرت ظاهرة التعصب لفكرة ما، واتسع عدد رواد نادي «محتكري الحقيقة» وصار موزعو الشهادات على الآخرين نجوم الديوانيات والأعلام، فهذا يقول إنه اهتدى سياسياً إلى الطريق الأنسب وإن مشروعه هو الوحيد الذي يحقق نقلة نوعية في الكويت مما هي عليه إلى مرحلة أفضل، ويطالب الآخرين بأن يهتدوا إلى ما اهتدى إليه وإلا فإنهم سياسياً في طريق الضلال، ثم يترك للسانه أو قلمه أن يطلق عليهم مختلف الصفات والتسميات والإساءات من«المستفيدين والبصامين» إلى «المشاركين في التجاوزات»… سبحانك اللهم وأنت القائل:«إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ».
واعتبر أن الهداية مرتبطة أيضاً بحسن الظن والنية الحسنة والانفتاح على الناس واستقطاب محبتهم، اللهم إلا إذا كان المرء يعتقد أنه اهتدى لاتباعه طريقاً معيناً، وأنه انتصر لأن غيره يتبع طريقاً آخر، أو يعتقد أنه يزداد هداية إن أكثر الظن بالآخرين واغتابهم، مع أنه يدري عمق الآية الكريمة:«يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا».
وأجزم بأن الهداية لصيقة بالصبر والتسامح، فكيف لامرئ أن يهتدي وهو ينام ويستيقظ على فكرة الانتقام من الآخر أو الحسد، وكيف يمكنه أن يكون سفيراً عظيماً لدينه وهو المتسرع المندفع في ردود أفعاله… والله سبحانه وتعالى يقول «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» ويقول جل جلاله:«وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ».
وأجزم أكثر أن الهداية لا تنفصل عن السلوك القويم أو أقله الحد الأدنى من احترام الذات واحترام الآخرين، فالافتراء والتجسس والفبركة والتعرض لآخرين في أعراضهم وذممهم وأهلهم وشرفهم ووطنيتهم وأخلاقهم يسيء إليهم وإلى صورة ما يمثلون أكثر من إساءتهم لمن أرادوا الضرر به… «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا».
والهداية والكذب طريقان لا يلتقيان، ويمكن للسفهاء أن يكذبوا بعض الوقت لكن حبل الكذب قصير جدا كما أن ثمن الكذب الموجه لإيذاء الناس والإضرار بهم إثمه كبير جداً… «يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»، وكذلك: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ».
والهداية والعلم خطان مشتركان، فالإسلام دين عقل ودين علم ودين عمل، وكم هي جميلة دعوة الأب لابنه، أو المرء لقريبه أو صديقه، بأن يهتدي فينهل من العلم أكثر، وأن يهتدي فيقبل على العمل أكثر، وأن يهتدي فيعمل عقله لا انفعالاته في التعامل مع مختلف الأمور. ألم تكن الآية الأولى:«اقرأ باسمِ ربِّكَ الَّذي خلَق خلَقَ الإنسانَ من علَق اقرأ وربُّكَ الأكرم الَّذي علَّمَ بالقلَم علَّم الإنسانَ ما لم يعلم».
عود على بدء، فالهداية طريقها واضح ومحدّد في الدين لكن كثيرين للأسف الشديد اخترعوا طريقاً آخر وأسبغوا عليه شرعية زعموا أنها دينية أو شرعية. الهداية لا تعرف تهديد السيف فوق الرقاب، ولا إبقاء المرء أسير الخوف، ولا تعترف بالقوة الجسدية أو الجبرية أو العقابية فهذه القوة تضلّلها… الهداية نبتة تتغذى بالمحبة والمعروف والصدق والابتسامة والكلمة الطيبة، تعيش بالتبشير لا بالتنفير، وتنمو بالعلم والحكمة والمعرفة، ألم يقل سبحانه وتعالى:«ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».
هدانا الله جميعا في الكويت إلى سوء السبيل، وأعاد إلينا روح الاعتصام بحبل الوحدة، ومكّننا من تجاوز الفجور في الخصومة، واستعادة الألفة ولغة التخاطب والاختلاف. وهدانا الله جميعاً إلى التمسك بالوطن واحترام معانيه فهو بيتنا وكسوتنا، وإلى حماية مكتسباتنا الوطنية والدستورية، وإلى التمسك، بقول كلمة الحق مهما كانت أثمانها كبيرة، وإلى الإصرار على توسيع مساحة الحريات تحت سقف القانون والدستور، وإلى الحفاظ على استقرار مجتمعنا وسط إقليم ملتهب بكل المخاطر والتحديات والرياح السود… وهدانا الله إلى استلهام المعاني الحقيقية للشهر الفضيل، شهر البر والتقوى والتأمل والمراجعات الذاتية ونذير الخير الذي لا نريد أن يغادرنا.