تخضع مقولة «الأردن على مسافة واحدة ومتساوية من الأشقاء في الخليج» اليوم لاختبار حقيقي عقب الخلاف الذي اشتد مؤخراً بين الرياض وأبو ظبي والمنامة من جهة والدوحة من جهة ثانية. سبق أن توترت علاقة الأردن مع قطر لأسباب عدة، ومن قبل مع الكويت وقت الغزو العراقي لهذا البلد، لكنّ الأردن كدأبه في إضعاف المنحى الأيديولوجي في مواقفه وسياساته، كان يبحث دوماً عن أي وسيلة أو نافذة لتهميش «خصومته» مع الآخرين وترك كوّة للتواصل والاستدارة.
الذين ينظرون بإيجابية وارتياح إلى المواقف الأردنية من الأزمة السورية وملفات المنطقة في شكل عام يقولون إن الأردن اتخذ سياسة «الغموض الإيجابي» منصة لتبني سياسات محسوبة حمتْ الأردن وراعتْ أمنه واستقراره ومنعتْ أيّ تدهور في علاقاته بدول الجوار والإقليم، مع أن بعضها على طرفي نقيض في الرؤى والأهداف والتحالفات والسياسات. في المقابل، يذهب من يرى موقفاً معاكساً إلى أن هذه المواقف والسياسات الأردنية تكشف عن اراتباك استراتيجي، حتى لو كانت التكتيكات الحالية تنجز بعض النجاحات، حيث يُخشى أن تكون موقتة. مثل هذين الجدل والسجال قد يستعادان اليوم في ظل الاختلاف الحاصل داخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية، عقب سحب الرياض وأبو ظبي والمنامة سفراءها لدى الدوحة. وفي حال تفاقم هذا الخلاف فذلك يعني تحدياً ديبلوماسياً جدياً أمام الأردن.
الرغبة الأردنية ما زالت قائمة في أن يحظى الأردن بمعاملة تفضيلية وبخاصة من دول الخليج، بل صرّح رئيس الوزراء عبد الله النسور مؤخراً بأن «عدم انضمام الأردن لمجلس التعاون الخليجي كان خطأ استراتيجياً، وخطأ قوياً جداً، ولا أدري ما السبب». وأوضح النسور الأسباب التي تدفعه إلى الاعتقاد بذلك حيث قال: «لا يختلف الأردن في سياسته عن الخليج، ولم يخرج عن سياسة الخليج، والأردن ليس عبئاً اقتصادياً»، مشيراً إلى أن المملكة تجاور الدول المضطربة أمنياً في المنطقة، مضيفاً: «لنفترض أنه صار عندنا في الأردن قلاقل، هل من الأفضل أن يتركونا حتى تأتي إلينا الاضطرابات، ويعتقدوا أن النار خارج حدودهم».
على الأغلب تجاوزت الأحداث الحماسة التي دفعت الرياض قبل سنوات لطرح مسألة انضمام الأردن الى مجلس التعاون، لكن في المقابل يتم التساؤل حالياً عن الصيغة التي ستحكم الجانبين (الأردني والخليجي) في ظل اتساع التباين بين دول الخليج تجاه ملفات المنطقة وتطوراتها، وفي ظل اختلاف الرؤى في شأن الإسلام السياسي والملف المصري والملف العراقي وغيرها من وجهات النظر المتعارضة، وهذا التباين وتلك الملفات والتطورات تلقي بظلال ثقيلة على الواقع الداخلي الأردني حيث يتعثر المشروع الوطني الديموقراطي وتُخفق النخبة السياسية في تمتين الجبهة الداخلية بعيداً من محددات الدعم الخارجي أو الاستثمار في قلق الأردنيين من قلاقل الإقليم ونيرانه المشتعلة.
على الجانب الآخر، ولمغالبة المخاطر المهددة للأردن في ظل بيئة إقليمية قاسية ومتقلبة تجعل سياسة «حافة الهاوية» تحدياً يومياً للعقل الاستراتيجي للدولة، من المهم التعاطي بشكل عاجل مع مسألة الإصلاحات السياسية الداخلية وترسيخ مبادئ «الحوكمة» والمحاسبة في ظل تفاقم عجز الموازنة الأردنية.
مقولة «الأردن صمام الأمان للخليج والجوار» تتساوق مع ابتعاد الأردن عن تبني أي «سياسة نهائية» في سورية والعراق وتجاه مصر وإيران…، قد تطوّق قدرته على التحرك، فدائماً هناك كوّة لإعادة التموضع من جديد، ودائماً هناك أكثر من خيار، حيث الافتقاد للاختيار «سياسة انتحارية» أبعد ما تكون عن الفهم الأردني العام والتاريخ السياسي للبلد. والذين يميلون إلى أنّ سياسة الأردن الذي «على مسافة واحدة من دول الخليج» ستخضع للتغيير يؤكدون أن عمّان لم تكن يوماً أقرب إلى الدوحة منها إلى الرياض وأبو ظبي، ويرون أن إمكانية الخروج عن الحياد متوافرة ربما في ظل برود ما في العلاقة مع الدوحة على خلفية عدم تقديمها حتى الآن التزامها المالي الذي قرره «مجلس التعاون» للأردن، ناهيك عن أن المقاربة الأردنية للإسلام السياسي في المنطقة تتعارض مع المقاربة القطرية، والحياد الإيجابي الأردني من الملف السوري مشروط بعدم السماح بتقديم أي دعم للجماعات الإسلامية في سورية. في المقابل يميل الأكثر حذراً إلى التذكير بكلام عبدالله النسور الأخير، في حواره مع «الوطن» القطرية والذي نقلته وكالة الأنباء الأردنية الرسمية «بترا»، حين أكد أن «السياسة القطرية شأن داخلي» وأنه «لا يوجد دولة في العالم تنهج سياسة تعجب الكافة»، وأن «ما يجمع البلدين أكثر بكثير مما يمكن أن يفرق». هذا التحسب مفهوم خليجياً أيضاً عند تذكّر أن ثمة 30 ألف أردني يعملون في دولة قطر.