قصة هلال المطيري ـ اعداد فرحان عبدالله الفرحان

كانت الاجواء في الكويت في اول القرن التاسع عشر اقرب الى الفقر والبساطة، حيث ان غالبية السكان يعملون في البحر بالغوص وصيد السمك والسفر الى البلاد البعيدة كالهند وافريقيا، والقلة من الكويتيين في وضع اقتصادي واجتماعي ميسور امثال: آل الرزاقه والحداد اصحاب مسجد الحداد قرب البنك التجاري، وآل العبد الجليل والخالد والبدر والعامر تجار الخيل وآل الخميس وآل بن رزق ظهر بعدهم آل المرزوق وآل المخيزيم والفليج وبن علي من آل الرومي والغانم والصقر والشاهين وغيرهم من العائلات التي كانت تتعاطى عمل البحر والتجارة..

مع نشاط الكويتيين المكثف في تجارة الغوص والبحث عن اللؤلؤ في البحر الى شراء هذا اللؤلؤ من اصحاب السفن التي تبحث عن اللؤلؤ في البحر، حيث تأتي لهم سفن اخرى (وهي ما يسمى الطواشة) لشرائه والذهاب به الى الهند لبيعه هناك، لهذا «ترعرع» وتنشط الاقتصاد في الكويت بوجود الاطمئنان، وكان حاكم الكويت في تلك الحقبة «جابر عيش» بعد جده صباح الاول ووالده عبدالله الاول، فانتعشت الكويت اقتصادياً، ولهذا كان هذا الحاكم يقدم وجبة الطعام الغداء يومياً للفقراء وكان يطلق عليه «جابر عيش» وعلى من يقوم بإعداد هذه الوجبة بن عمير تسمى «عيش بن عمير».

توجه الى الكويت في هذه الفترة بعض ابناء البادية ومن اهل نجد بعد الجدب والمجاعة هناك، فمن ضمن هؤلاء فرع من فروع قبيلة مطير يسمون «الدياحين» كان من ضمن هؤلاء بن براك وفجحان هلال ووالد الشاعر ابراهيم الديحاني وغيرهم.

استقر هؤلاء في اوائل القرن التاسع عشر باحثين عن العمل والرزق الحلال وكان في هذه الاثناء ولد للسيد فجحان هلال مولود في هذه المدينة الكويت، حيث كان يسكن في منطقة وسط المدينة قرب مسجد آل العبد الرزاق حول السور الثاني، سماه هلال على اسم والده وشاء الحظ والقدر ان يعمل هذا الشاب في مقتبل حياته بجد ونشاط متوجها الى «الفرضه الاسكله» حيث تأتي البضائع وتنقل الى سوق المناخ لتباع هناك، وكانت تتساقط منها حبات الشعير (والطعام الفصم) وكان هذا الشاب «هلال» يتوجه يومياً لجمع هذه الحبات المتساقطة ليبيعها في اليوم التالي حتى ابتدأ يتدرب على البيع والشراء، وحول هذا الموضوع فلنتوجه الى ما كتبه المرحوم عبدالله الحاتم في كتابه من «هنا بدأت الكويت».. يقول في صفحة (358 ــ 359) التالي:

المعروف عن الحاج هلال بن فجحان المطيري، انه في بداية امره في الكويت لم يكن له شأن مذكور، حتى انه كان يعرف بين من يعمل معهم باسم (هليل) بالتصغير.. ولا يعرف الا به، ولما استقامت له الامور وبلغ من الثراء ما لم يبلغه احد سواه، لا في الكويت فحسب بل في المنطقة كلها، علا شأنه وذاع صيته، حتى شمل الاب والقبيلة، واصبح وكأنه «نار على علم» وليس ادل على ذلك من هذه الطرفة التي تصور لنا، بإيجاز حياة هذا الرجل العصامي النادر المثال.

كان الحاج هلال جالساً ذات يوم في دكان زيد الخالد بسوق التجار و«زيد» هذا هو والد خالد الزيد الشخصية المعروفة، وجاء رجل كفيف يدعى عثمان بن شارخ الى زيد الخالد في دكانه، وكان على علم بوجود الحاج هلال، فقال، مخاطباً زيد الخالد، على مسمع من الحاج هلال:

«انا عندي شكاية ع‍لى حجي هلال».. فاستغرب زيد والحاج هلال. وأردف الكفيف قائلاً:

– «منذ حوالي ثلاثين سنة، كنت قاعداً عند مسجد ابن فارس وبيدي تمرة، وإذا بيد تدخل من كم عباءتي وتنقض على التمرة، التي طارت من يدي، بينما أطلق خاطفها ساقيه للريح. ويومئذ قيل لي: ترى اللي خطف التمرة منك هليل. ولكن ما الفائدة وقد هرب؟!..».

فضحك هلال ضحكاً متواصلاً، وقال: ما نسيتها؟! هذي صار لها زمان!..

قال الكفيف:

– «شلون أنساها، وأنت خليتني ذاك اليوم بلا غدا؟! والمثل يقول: ينسى الصافع ولا ينسى المصفوع».

وهنا أمر له الحاج هلال بخمسين روبية.

* * *

هذه القصة تعطينا عدة ملاحظات:

أولاً: ان هلال المطيري كان يطلق عليه في أول حياته بالتصغير «هليل»، لأنه يلتقط حب الطعام العظم والشعير وغيره، فإذاً هو فقير مدقع.

ثانياً: كيف وصفه المادي عندما أقدم على أخذ فردات التمر من العجوز (عثمان الشارخ) وكان الاثنان جائعين ومعوزين.

ثالثاً: كيف وصفه في ما بعد والغني، حيث قدم خمسين روبية لهذا الفقير، وهو يضحك ويبتسم ويعتذر.

هنا لا بد لنا من الذهاب إلى «الموسوعة الكويتية»، حيث نقرأ ما كتبه المرحوم حمد السعيدان في الجزء الثالث، وكتب نبذة عن هلال المطيري وألحقها بمجسم عن قبيلة مطير وفرع هلال المطيري الدياحين، يقول:

المطيري: هو من ينتمي إلى قبيلة المطران.

هلال المطيري:

أكبر ثري عرفته الكويت في عصره، فقد كان طواشاً وتاجر لآلئ، اتسعت أملاكه حتى شملت الكويت والبحرين والبصرة والهند، ولد سنة 1855، عضو المجلس التشريعي 1921، بنى مسجداً عُرف باسمه، وكذلك مقبرة عُرفت بمقبرة هلال، توفي سنة 1938، أطلق اسمه على أحد الشوارع في الكويت.

بدأ هلال يعمل ويجتهد حتى صعد نجمه وأصبح من التجار الموسومين بالوجاهة والعز، بفضل حكمته، لأنه لم يضع بيضه في سلة واحدة، كما يقولون، وأخذ ينوع تجارته في البر والبحر.

كما ذكر حمد السعيدان، حيث كان طواشاً يدور على السفن التي تبحث عن اللؤلؤ في قعر البحر، ثم يعدها تاجر لؤلؤ، وكانت تجارته في الخليج والبصرة، حيث النخل الذي يملكه هناك، وفي الهند يبيع هذا اللؤلؤ ويحصل على أرباح كثيرة.

أصبح هلال من كبار تجار اللؤلؤ، وكان بينه وبين بعض تجار اللؤلؤ خلاف مع الشيخ مبارك الصباح، اضطر هلال وأصحابه إلى مغادرة الكويت إلى البحرين. ولقد أفرد لها الشيخ عبدالعزيز الرشيد لهذه الحادثة تسع صفحات في كتابه «تاريخ الكويت وعبدالعزيز الرشيد»، أعرف بهذه الأحداث، وذلك لأهمية هذه القصة، ونحن هنا نوردها كما وردت في كتاب الرشيد «تاريخ الكويت» بالتالي (من صفحة: 190 – حتى 198).

 

هجرة تجار اللؤلؤ من الكويت

لسبب سيأتينا ذكره، هجر جملة تجار اللؤلؤ الكويت إلى (البحرين وجنة) أيام مبارك، وكان شملان بن علي وهلال المطيري وإبراهيم بن مضيف هم الزعماء لتلك الحركة والفائدة.

 

أسباب الهجرة

ضاعف مبارك بعد معركة هدية التكاليف الحربية على أهل الكويت، كما علمت سابقاً. فبادروا بما أمروا به، ولكن أحدهم، وقد كان مرجل حقده يغلي على أولئك الفاضلين، أثار حفيظة مبارك عليهم بما افتراه من الكذب والزور، وبما لفقه من الافتراء والاختلاق. فقال له المبارك إنهم لم يخرجوا رجالاً صالحين للقتال ولا بادروا بامتثال أمرك المطاع استهانة بك واستصغاراً لقدرك.

فساء مبارك هذا التصريح وأجج نار الغضب في قلبه حتى اضمر لهم الأهانة والاحتقار، ومعاكستهم في أمورهم ومصالحهم. فأعلن منع الغواصين في ذلك العام. وفي الغوص حياة الكويتيين وثروتهم. ثم ما زال بطل الرواية بعد أن ربحت صفقته في هذا المنع ينوع الكذب عليهم ولا يألو جهداً في أذيتهم.

أما مثير فتنتها وبطل رواياتها، فرجل شرير. عرف الكل خبثه. واشتهر كذبه ونفاقه بين الجمهور، رجل اتصل بمبارك لتقطيع الأواصر بين الرئيس والمرؤوس ولإشعال نيران الوشاية والحقد هو يوسف الدويرج الذي قال فيه بعضهم وقد ذكر دوره الذي مثله أمام مبارك في هذه القضية:

أيا يوسف لا أسعد الله يوسفاً

وغادره في مهمه الشر يمرح

وسعت عباد الله خبثاً وفتنة

وأصبحت في كل الخلائق تقدح

وتؤذيهم من غير أمر مسوغ

وترمي بريئاً ما به الدهر مقدح

وآذيت أصحاب النبي وحزبه

فظلت حسان الحق للدمع تسفح

تخذت مقال الزور خير بضاعة

فكنت بها دون البرية تربح

ففي زمن الشيخ الكبير مبارك

أتيت بفعل مثل وجهك يقبح

وزورت أقوالاً تسر لخبثها

شياطين دنياك الغرور وتفرح

فأوغرت منه الصدر حقاً لقومه

وحرضته في سلبهم وهو أقبح

وفي زمن الشيخ المعظم سالم

غدوت بهاتيك المصائب تسلح

فوترت منه الود بين رجاله

وغادرته في مربح الحقد يمرح

***

أيا أحمد (1) الأفعال إياك من غدا

وليس له إلا الشقاوة مربح

وإياك إياه فما فيه خصلة

يسر لها الحق الصريح ويفرح

فما هو إلا الخبيث والخبث طبعه

وما هو إلا للسفاهة يجنح

فدع قوله في قومك الغر أنه

لهم نحوكم حق أكيد مصحح

ولا تسمعن قول الخؤون لربه

فمن خان مولاه فمن أين يصلح

صرح إذ ذاك في مجلس ضم الأمير الشيخ أحمد آل جابر (الحاكم الحالي) وهلال المطيري، وناصر آل بدر وابراهيم بن مضيف بقوله: الواجب المؤكد ان تخص تلك التكاليف بتجار اللؤلؤ من دون سواهم، فاه بهذا القول الجائر الذي اربدت منه وجوه القوم، لاسيما هلال، فاسمع الرجل من الكلام الحاد الخاشن ما زاد التهابه وحقده عليه وعلى اخوانه، حتى صمم على تضحية الصدق والشرف في مذبح الانتقام، علم بعزم هلال واصحابه على الشخوص الى مبارك في (السرة)، لمفاوضته بأمر الغواصين، فطير اليه رسالة طرزها بالكذب، وحشاها بالزور، وقد وصلت الرسالة الى مبارك قبل وصولهم اليه، فتركت قلبه يغلي من الحنق ويضرب اسداساً بأخماس من التأثر، وبينما هو كذلك اذا بهم قد اقبلوا وفي مقدمتهم هلال، فقال مبارك لاحد خدامه بعد ان جلسوا: «هات ماء بارداً لهم ليطفئوا به حرارة عطشهم»، قال هذا متهكما بهم، وبحركتهم التي قاموا بها، وقد فهم القوم تغيره لا من كلامه وحسب، بل من وجهه المربد ومن حركاته المضطربة وارتعاشه المتوالي، لهذا لم يروا مفاتحته فيما جاءوا لأجله خوفاً من تعقد الامر وزيادة اشكاله، بل رأوا ازالة ما علق بذهنه، ان يعرضوا عليه استعدادهم لاستبدال الرجال بسواهم ان كانوا غير صالحين للقتال، ولكن مباركاً عندما حاولوا فتح هذا الباب أوصده امامهم، وابتدأهم بالبحث فيما حدا بهم للمثول بين يديه، فقال بعد كلام طويل: «إنكم ارغيتم وازبدتم من منعي للغواصين هذا العام وانا في الحقيقة ما تظاهرت في المنع الا لمصحلتي ومصلتحكم معاً، انتم تعلمون ان العدو امامكم وعلى ابواب مدينتكم ونحن في حاجة الى ان نظهر امامه بمظهر القوي النشيط، ولا ريب ان شهرة المنع تزيدكم قوة في عينيه وتترك فرائصه ترتعد من الخوف والفرق.» وبذلك قنعوا ثم رجعوا من حيث أتوا، وقد تظاهروا بالرضا والاستحسان لما فاه به، رجعوا ولم يصبهم من قنابل غضبه الا شظايا لا قيمة لها، وقد ساءت سلامتهم ذلك الواشي وكدرته نجاتهم من قنابله المهلكة التي رماها في طريقهم، فطفق يبحث عن طرق اخرى ليلقي بها عليهم ويخمد انفاسهم ويولجهم في ظلمات الرموس.

فقال يوما امام مبارك وقد احاطت به ثلة من اولئك التجار الكويتيين: أطال الله عمرك قد نصحوا فيما أمرت إلا ثلاثة: هلال المطيري، وشملان بن علي، وإبراهيم بن مضيف، وهلال أعظم الثلاثة عناداً وأكثرهم جرماً فحرك بهذا الافتراء ساكن غضب مبارك عليهم حتى اعتزم رميهم بما يزعجهم في مجلسه العام. ففي يوم وقد اجتمع الثلاثة ينتظرونه في ذلك المجلس، على عادتهم أرسل إليهم من يأمرهم بانتظاره هناك وعدم مغادرتهم المجلس قبل مجيئه. فأحس شملان اذ ذاك بالشر وشم من هذا الأمر رائحة الانتقام، فأشار على صاحبيه بالانصراف قبل وقوع ما يحذرون ولكنهما لم يسمعا لنصحه ولا قبلا مشورته فانصرف هو وحده فتركهما في انتظار مبارك الذي امطرهما بعد ان جاء، بوابل من غضبه مما هرى اللحم وأوهى العظم وكان من جملة ما قاله لهلال: «لا ينبغي لمثلك ان يرفع أنفه أو يتظاهر بالعظمة والكبرياء وأنت من أحد أجلاف مطير، وأحد أسافلهم، من سقطهم، وجئت الى الكويت فقيراً لا تملك فطيراً فأقمت فيها تحت ظلنا وأنخت في حمانا وحمايتنا حتى كنت الآن أكبر المثرين فيجدر بك وهذه ترجمتك ان تزور بجانبك عن الطاعة والخضوع». ثم التفت الى إبراهيم صاحبه، وأسمعه قريباً من ذلك. وكان من بعض ما وجهه إليه أن قال: «لا تظن أنك من رؤوس بني هاجر وأعاليهم بل انت من أراذلهم وأذنابهم الساقطين، ألا تعلم بأن أباك سابقاً كان خادماً عند علي بن سيف» ثم اتبع هذا بالتهديد الشديد والوعيد الأكيد.

وأما شملان فقد رجع الى المجلس ولكن بعد ان نفث مبارك سمه وبعد ان سكنت عاصفة غضبه، فلم يسمعه اذ ذاك ما يكره، ثم تركوا المجلس جميعاً وفرائصهم ترتعد من الخوف، تفرقوا وقد قبضوا أرواحهم بأيديهم. غادروا المجلس، وهم يلتفتون خلفهم يتسمعون النداء. غادروه ثم تمالأوا على الهجرة الى حيث يأمنون على أنفسهم وأموالهم من مبارك الظالم المستبد، والغشوم الجائر. تمالأوا على ذلك ولم يطلعوا أحداً من إخوانهم. غير ان شملان قال لصاحبيه بعدما عقدوا العزم: «اننا سنهاجر من بلدنا، ونهجر اخواننا وأصحابنا.

فإذا ما ندم مبارك في ما بعد على هفوته واعترف بذنبه، وجاء إلينا معتذراً فلا يسعنا هنا إلا إجابته، لأن لنا في الكويت أقارب وأموالاً وأصدقاء». فاستحسنوا ما قال. فسافروا إلى الغوص في ذلك العام، وقد تعاهدوا على ما سمعت. غير ان شملان رجع إلى الكويت لأخذ بعض المهمات وعاد في الحال. وفي نهاية الغوص أظهروا عزمهم لإخوانهم الغواصين وأفسحوا المجال لمن يستأخر منهم، فبقي بعض ورجع آخرون. ذهب هلال وابن مضف إلى البحرين، وبقي شملان ومن تبعه في «جنة».

فجاءت الأخبار إلى مبارك بما قام به هؤلاء فعلم بغلطه الذي وقع منه، وعلم بخبث المتسبب في ما جرى وغشه، فندم على ما فرط منه وأسف أسفاً كبيراً. ولماذا لا يأسف ويندم وهؤلاء المهاجرون يكونون نصف الكويت هم وأتباعهم؟

 

ندم مبارك على هجرة القوم والطرق التي سلكها لإرضائهم

استعمل مبارك طرقاً شتى لإرضائهم، فألف أولاً وفداً من ناصر البدر وحسين بن علي وفارس الوقيان، وأصحبهم برسالة تتضمن الاعتذار لهم، ويحثهم فيها على الرجوع إلى وطنهم وتناسي الخطأ الذي وقع منه. فلم يلبوا دعاءه ولم يرجعوا، كما أراد، لأنهم لم يروا الوفد والكتاب كافيين لتنازلهم فبقوا هناك ينتظرون ما يأتي به الغد.

أما مبارك فجهز وفداً ثانياً مؤلفاً من سالم ابنه ومن حسين بن علي، فساروا بمركب بخاري إلى «جنة»، حيث شملان وراشد أبو رسلي وأحمد المناعي واخوانه وسعد أخو ناهض وصالح المسباح، وقد أظهر سالم بعد ان اجتمع بهم شديد تأثره بما حصل وترجى من الكل غض النظر عما مضى، فأظهروا الاقتناع بما قال إلا شملان فإنه لم ير البت إلا بعد استطلاع رأي صاحبيه، وقد فضل سالم رأيه، وسار هو وإياه وحسين لمقابلتهما في البحرين، وهناك عرض سالم على هلال المهمة التي جاء من أجلها، فقال لا بأس، ولكن أحب أن يكون ذلك بحضور الشيخ عيسى آل خليفة، ولما اجتمعا بالشيخ المذكور قال هلال لا أرجع إلا بعد أن يتعهد لي الشيخ عيسى بألا يجري عليّ اعتداء في الكويت من أحد، أما الشيخ عيسى، فأعطاه ما طلب بعد أن علم برضاء سالم بذلك، ولكن هلال، وقد ربح تلك الصفقة، زاد طمعه فقال لسالم، وعلى شرط «أن من يرشني بماء ترشونه بدم»، فارتبك سالم في الجواب، لأن الطلب جائر وتفرقوا عل‍ى لا شيء إلا أن سالم أوقف الأمر على رضاء أبيه، وقال لهلال إني ذاهب إلى الكويت، وسأعرض اقتراحك على والدي، فإذا ما قبله بادرت بالكتابة إليك، باعتزام سالم على العودة ببقية المهاجرين، أما شملان، فلم يصمم على مرافقتهم إلا بعد أن عرف رضاء صاحبه بسفره دونه.

وصلوا إلى الكويت وشرح سالم لأبيه ما جرى، فلامه اللوم الشديد على توقفه وعلى عدم بت ما طلب، وفي الحال أمره أن يكتب إليه بقبول ما شرط، غير أنه في تلك الآونة جاء كتاب من هلال إلى جابر يعتب فيه على أبيه مبارك لانخداعه بمدح أو ذم خدامه وإصغائه إلى ما يقولون فيه، أيضاً هبته جميع ما يملك في الكويت من إبل وغنم ونخل لجابر، فأساء مبارك ذلك الكتاب واضطره إلى أن يتحول عن عزمه، فمنع سالم مما أمره به، وقد خيّل لهلال ألا مفر له في الكويت بعد هذا، وأنه لا يحسن به سكناها، وقد صدر منه ما صدر فاستقدم أهله منها إلى البحرين، ولم يبد مبارك أقل تمنع في سفرهم، ولكن شملان تلطف بتخطئة مبارك في عمله بالمرة الثانية، وقال له إن وجود هلال في البحرين فيه ضرر عليك وعلى بلدك، فإن البلد ينتفع من ثروته بما لا يقل عن خمسين ألفاً من الروبيات يبذلها للفقراء والمحتاجين، زيادة على ذلك فبقاؤه هناك يكون مركزاً لمن يريد الهجرة إليه من أهل الكويت، فالرأي ألا تفرط فيه مهما كانت الحال.

 

مبارك يسافر إلى البحرين لإرضاء هلال

علم مبارك ان نظر شملان صائب فعزم على التساهل مع المهاجر، وعلى ان يرجعه إلى بلده مهما حمله من تنازل، فقال لشملان: ما مضى فات وسأبحث فيما بعد عن حل مرضٍ. وأخيراً رأى انه لا يتم له ما يحاول إلا بسفره إلى البحرين بنفسه، فسافر في مركبة مشرف إليها بعد ان سافر الغواصون، وقد اصطحب معه شملان وإبراهيم بن مضيف، غير انه تظاهر بعزمه على زيارة الشيخ عيسى آل خليفة. سار إلى البحرين كما أراد وعندما أرسى في مينائها خف للسلام عليه حكام البحرين والوجهاء. ثم أوعز بعد هذا إلى شملان وإبراهيم بن مضيف ان يجسا نبض هلال ليقفا على رغبته في الرجوع. أما هما فلم يجدا بعد البحث عقبات إلا طلبه أن يرضيه مبارك نفسه أمام حاكم البحرين. وقد استسهل مبارك هذا الطلب، فأرضاه بعد أن اجتمع به عند الشيخ عيسى وأبنائه حمد ومحمد وعبدالله وبعض أكابر الكويت. وأرضاه بعد ان تشفع بالحاضرين في رجوعه إلى وطنه، وانه هناك لا يقابل إلا بالتجلة والاحترام وبذلك أضاع مبارك على هلال ما عزم عليه من شروط وتحفظات.

وهنا يجب أن نسجل الرسالة التي بعثها هلال إلى الكويت من البحرين، وتعطينا انطباعاً بأن هلال كان ثابتاً على مبادئه، فاضطر الشيخ مبارك إلى التوجه إلى البحرين بشخصه لمقابلة شيخ البحرين، ولكن المفخر في القلب هو ترضية هلال لرجوعه إلى الكويت، لأن هلال يعتبر ثروة قومية من تجارته واقتصاده وماله وما له من مكانة عند الكويتيين، بل أضف إلى ذلك أبناء قبيلته، لهذا كانت نظرة الشيخ مبارك صائبة وبعيدة الحسابات، وهنا نسجل ما أورده سيف الشملان في كتابه «من تاريخ الكويت» في صفحة/ 156 – 157، ويورد رسالة من هلال إلى إبراهيم المضف وحسين بن علي بن سيف، يقول التالي:

 

بسم الله تعالى

حضرة جناب الإكرام إبراهيم بن مضف وحسين بن المرحوم علي بن سيف المحترم، سلمهم الله تعالى وابقاهم آمين. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام وصلنا إلى البحرين يوم الأحد العصر، وشرعنا عند البديع، وصار عبدالله بن حسن ما هو حاضر فكتبنا له خط للمنامة وجانا الصبح في البديع، وقال لي عبدالله بن حسن بليوز مال الكويت جاني في مركبه واستخبر أنك أنت يا هلال جاي وطرش عليّ أنا يا عبدالله بن حسن في الليل، وقال آبي (5) هلال يواجهني إنت واياه خفية ما أحد يدري وحسب الظاهر إني أواجه ليلة الاثنين. وموجب جواب عبدالله بن حسن أن القناصل اثنينهم ويانا فازين، قنصل الكويت وقنصل البحرين، والأمور إن شاء الله تبي تجري على مطلوبكم ومستررين في ها المادة هذه وأنتم ما عليكم محاذرة الذي يبي يجي يجي، والغواويص على نظركم إن بقيتو تحلونهم يجون البحرين، والا يدفون (1) في دارين لين نعتزم على الرأي الذي يبي وأنتم على هواكم، وإنا إذا واجهته وأخذت جوابه، فلا بد يحيكم مني تعريف. وأنتم لا تصيرون بفكر الأشياء، إن شاء الله تبي تجري كلها على مطلوبكم، لا تصيرون بفكر أبداً الذي أنا أشوف هذا ما لزم تعريفه ودم سالم، والسلام والسلام.

23 شعبان 1328

صحيح

هلال بن فجحان

هلال المطيري ليس هو أول شخص مع أصحابه الذين تكدر خاطرهم وتوجهوا إلى البحرين إبراهيم المضف وشملان بن سيف وهلال المطيري، بل كانت هناك قصة للشيخ عبدالعزيز الرشيد ذكرها في مجلة «الكويت»، حيث ذكر في الجزءين الرابع والخامس في 5/2 ربيع الثاني وجمادي الأول سنة 1348، المجلد الثاني صفحة 204 – 205 أنه عزم التوجه إلى البحرين، فكان الشيخ عبدالله الخلف والفاضل أحمد خالد المشاري أن توجه كل واحد منهم برسالة لثنيه عن عزمه بذلك، ويقول التالي:

شعور الأصدقاء نحو انتقال صاحب هذه المجلة من الكويت إلى البحرين عزّ على كثير من إخواننا الكويتيين الفضلاء، عزمنا على الانتقال من الكويت إلى البحرين، وأخذ بعضهم يناشدوننا بألا نفعل، وما كان بودنا أن نرد لهم طلباً لو كان ذلك في الوسع اليوم، ولم تكن ثمة أسباب قهرية تضطرنا إلى هجر مسقط الرأس والبلد الذي هو أول أرض مس جلدي ترابه.

وسأنشر هنا نماذج من رسائل أولئك الإخوان الفضلاء التي ضمنوها شعورهم الرقيق نحو أخيهم، مستميحاً إياهم العذر فيما اعتزمت عليه، وفي عدم النزول عند إرادتهم إذ الضرورات لها أحكام منها وللمزعجات أثرها في الحل والترحال.

ولولا المزعجات من الليالي لما ترك القطاطيب المنام

 

ثم أرجو ممن يحملون لأخيهم العطف والحنان والمحبة والولاء ألا يضطروه إلى شرح الأسباب التي دفعته إلى هذا العزم والتصميم على صفحات الكويت، فإن نشرها مع كونه يؤلمه ويؤلم كل محب للكويت شفوق على سمعتها يعده بعض من يدعي الوطنية «الكويتية»، «وياللأسف عقوق لها ولأهلها في الوقت الذي يجب برها وبرهم، وهنا لا أقول إلا سامحهم الله فيما يدعون».

الأستاذ الجليل الشيخ عبدالله بن خلف الدحيان، قال حفظه الله من كتاب بعث إليّ في البحرين من الكويت: أهدى السلام التام لجناب العلامة الهمام الأستاذ الأجل الأخ الشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرشيد، حفظه الله تعالي وأدام توفيقه للصلاح والإصلاح، وكل أعماله النافعة بالنجاح السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله تعالى أن يجعلك هادياً مهدياً، وأنهى إلى كريم حضرتك تشرفي بوصول كتابك الكريم، وقد سرني وروده من تلك الحضرة ما زالت مشمولة بكل مسرة، وما ذكرت قد صار معلوماً، خصوصاً اعتزامك استيطان البحرين وشراءك منزلاً فيها، ونقل العائلة الكريمة إليها من منزل عز إلى منزل فخر، وهذا دليل على كمال رغبتك في تلك

الجهة، وحقيق بمن أقبل أن يقبل ويسرنا لك القبول والإقبال، وإن كنا نجد لانتزاحك عنا وحشة لا يزيلها إلا لقاؤك، جعلنا الله من المتحابين بجلاله إلخ.

الصديق الحميم الأديب الفاضل أحمد بن خالد آل مشاري، قال أدام الله إقباله من رسالة وجهها إلى من بمبئ إلى البحرين بعد السلام والتحية، ثم أيها العزيز لقد أبهجني وأسرني جداً استقامة أهل البحرين الكرام على إكرامك وتقديرك، وليس ذلك بكثير على مزاياك وسجاياك العالية، وإنهم لمشكورون علي هذا التقدير الذي وافق موضعه وتستحقه، ولكن غمني جداً وأحزنني إزماعك النقلة إلى البحرين لما في ذلك من حرمان وطنك مما هو في أشد الحاجة إليه اليوم، أنت بيننا نور ومقتبس لهذه النهضة الفكرية على ضعفها. فإذا فارقتنا، فسوف تسود الظلمة وتخمد مشاعل النور الضعيف الذي كنا نؤمل انتشاره وسطوعه، بما تمده به من نير أفكارك ورياح همتك، فأناشدك الله ألا تفجع وطنك وأحبابك، وإن كان لا بد من الرضوخ لأحكام الفروق ومتقضيات الوقت، فاجعلها مناصفة بين الكويت والبحرين، والله يأخذ بيدك لما فيه الخير والإصلاح.

 

 

من قصص كرم هلال المطيري

هذا هو هلال المطيري التاجر الموسر الذي لم تغره وفرة المال لديه. يروى عنه ذات يوم انه زار محمد عيسى العصفور، الذي كان اكبر تاجر لؤلؤ في الكويت وكان ديوانه يكتظ بكثرة الزوار والجلساء. وحينما دخل هلال على محمد عيسى العصفور لم يجد عنده احدا في الديوان، حيث انفض عنه زواره ومجالسوه، لانه لا يملك المال، فقال له هلال «أفا» كيف الناس تغيروا (وذلك لضيق الحال عنده)، وبعد ان تركه بساعتين فإذا بكم كيس من الأرز والدهن والتمر العدس كلها تصل الى ابن عصفور. وهناك قصة ثانية تروى لهلال المطيري، حيث انه من اكبر لاعبي الدامة الذين عرفتهم الكويت، وكان يسمع أن أخا حمد الصايغ من اللاعبين الشطار فطلب حضوره الى مجلسه، وعند مجيئه طلب منه أن يتبارى معه، اي هلال، وهناك لعبوا (داس، داسين، ثلاثة)، الداس مرة مرتين، مباريات للذي يغلب، وعندما لعب هلال ثلاث مرات مع أخي حمد كان في كل مرة يغلبه، فالتفت هلال إليه وقال «انت اللي يقولون عنك من أعظم لاعبي الدامة؟! وين شقك؟ وين فنك؟ وين براعتك؟». فقال له أخو حمد «أم العيال ميتة من الجوع وقاعد أفكر في أكلة العيال الليلة وبكره». فقال له «عجيب، أتراك جوعان وأنا ما أدري. على العموم إنتقابل بكرة ونشوف شغلك». وعندما كان هلال يتكلم مع أخي حمد أوصى مساعديه بأن يوصلوا إلى بيت أخي حمد كيسي عيش وكيس حب قمح وقلتين من التمر وكيس عدس (وعكة قربه) دهن، وعندما اطمأن هلال لتلك الترتيبات قال لأخي حمد «روح بيتك واللقاء بكرة». عندما وصل أخو حمد إلى البيت ورأى هذه الماجلة (المأكول) فرح وعلم انها من هلال.

وفي اليوم الثاني توجه إلى ديوان هلال وحضر كبار القوم ليروا المباراة التاريخية بين أبطال الدامة وعندما ابتدأ اللعب بالدامة تغلب هلال على اخي حمد، وفي المرتين الثانية والثالثة تغلب اخو حمد على هلال، وفي الرابعة تغلب هلال على اخي حمد، فالتفت هلال وقال له: امس تقول ام العيال ما عندها اكل واليوم اشلون؟ فقال له اخو حمد: معقول اغلب اهلال الذي «ترس» (ملأ) بيتي بالخير والنعمة؟! انا مينون؟! فقال له هلال: احنا تعادلنا، ابيك تصير مينون فلعب (داس) مرة خامسة، فقام اخو حمد، وقال لهلال: اكل طلع شيخ هلال، اكل طلع شيخ هلال ثاني، فقال له اكل، فأكل هلال، وما هي الا لحظات فإذا الحطب في الدامة يأكله اخو حمد كله، فالتفت هلال على اخي حمد، فقال له: انت شيخ الدامة، انت اكبر لاعب عرفته الكويت، ابيك تلعب وياي كل اسبوع، في يوم الجمعة. فقال له اخو حمد: ما دام ام العيال مو جوعانة تجدني تحت امرك. فقال هلال: لا تخاف، الخير جايك. أخيرا، فهذه قصة هلال المطيري الديحاني الكويتي اكبر تاجر لؤلؤ في الكويت، الرجل العصامي الذي ابتدأ من الصفر وترك ثروة ومكانة وسمعة له في تاريخ الكويت، وكان من اوائل من ملكوا سيارة في اول القرن العشرين. انجب هلال من الابناء حمد ومشاري وفجحان، وأنجب مشاري هلال ابناً سماه على اسم والده اصبح في ما بعد وزيرا للتجارة في الكويت، وكان هلال اصغر ابنائه فجحان سماه على اسم والده، وفجحان هلال المطيري: هنا هو الذي ولد سنة 1933م خريج تجارة 1960 مدير دائرة التشريفات في الديوان الاميري 1961، وكيل مساعد في ديوان المحاسبة 1964، استقال سنة 1966، اسس مؤسسة المرزوق الصحفية سنة 1965. وذلك تبعا لزوجته بنت المرزوق. وفي النهاية، فهذه قصة حياة هلال المطيري الذي ولد في منتصف القرن التاسع وتوفي في منتصف القرن العشرين، وترك مكانة وسمعة له في تاريخ الكويت، ستظل جزءاً من تاريخ هذه البلاد (الكويت).

 

 

 

 

المصدر: القبس