كانت حرارة أغسطس تستعد لإجتياح الأجواء مع إحتلال شمسه الحارقة تدريجيًا لكبد السماء، بينما يلطف الجو نسيم عليل قادم من نهر أوهايو إلى أحد ساحات مدينة أونسيورو الأمريكية، حيث نُصبت مشنقة عملاقة إلتف حولها عشرات الآلاف من المواطنين استعدادًا لمعايشة بداية غير تقليدية لـ 14 من أغسطس عام 1936.
ووفقًا لكتاب في كتابه «آخر إعدام جماعي في أمريكا»، لم تكن الساعة تجاوزت الخامسة صباحًا عندما صعد شاب عشريني إفريقي الأصل، درجات السُلم الخشبي إلى سطح المشنقة، مُقيدًا بالأغلال ومُرفق بالحراس، ليستقر في النهاية أعلى علامة «إكس» تميز فخ المشنقة، وفي غضون دقائق قليلة حُجب عنه العالم بغطاء قماشي أسود على الرأس، مرفقا بعقدة متينة إلتفت حول رقبته في إحكام، ليُفتح الفخ في النهاية ويسقط الشاب مُعلقا بين السماء والأرض، كي تعلن وفاته في تمام الخامسة و45 دقيقة، ويصبح بذلك آخر مواطن يفقد حياته في إعدام علني بالولايات المتحدة الأمريكية.
الشاب هو «ريني بيثيا»، وترجع قصة رحيله الشهيرة إلى الـ8 من يونيو عام 1936، حيث قرر العامل الأمريكي الفقير الذي انتقل من ولاية «فيرجينا» محل ميلاده إلى ولاية «كنتاكي» بحثا عن الرزق، أن يسلك طريقًا مغايرًا لتحقيق أهدافه، حيث تسلق أحد المباني السكنية بمدينة «أونسيورو» واقتحم غرفة أرملة عجوز تبلغ من العمر 70 عامًا، تُدعى « إيلزا ايدوردز»، و قام بسرقة مجوهراتها وأغتصابها وقتلها، دون أن يدرك أن فعلته أطلقت العد التنازلي لمشواره القصير.
بعد فترة وجيزة من هربه، تم إلقاء القبض على «بيثيا» كمشتبه به، وأُلصفت به التهمة بعد مطابقة بصمات يديه -التي مثلت اكتشاف حديث أنذاك- بتلك الموجودة داخل غرفة السيدة القتيلة، ليعترف الشاب بجريمته، ويدل الشرطة على موضع إخفائه لمجوهرات السيدة «ايدوردز» بأحد الإسطبلات القريبة من منزلها، قبل أن يتهمه المدعى العام بتهمة الاغتصاب والتي كانت عقوبتها أنذاك هى الإعدام العلني بالشنق، وذلك عوضًا عن الإعدام بالكرسي الكهربائي بعيدًا عن أعين الجماهير والذي تناسب مع إضافة باقي الأعمال المنسوبة إلى «بيثيا» للتهمة، من قتل وسرقة وغيرها التي تم تجاهلها، ليُدان فتى «فيرجينا» المتهم سابقًا بعدة جرائم ضمنها السرقة، لكن هذه المرة وبعد 5 دقائق أمضتها هيئة المُحلفين في المُداولة، قرروا معاقبته فقط على جريمة الأغتصاب، لتصبح عقوبة الشاب هى الإعدام شنقا.
لم ترتبط جريمة ولاية «كنتاكي» بمعاناة السيدة «ايدوردز» أو قرار هيئة المُحلفين فقط، بل بسيدة أخرى تقلدت منصب رئيس قوات الشرطة بمقاطعة دافيس، التابعة لها مدينة «أونسيورو» قبل فترة وجيزة من صعود قضية «بيثيا» إلى السطح. والتي وبحكم منصبها كان عليها أن تنفذ بنفسها حكم الإعدام على «بيثيا»، لتصبح بذلك «فلورانس طومسون» أول سيدة تنفذ حكم الإعدام على رجل في تاريخ الولايات المتحدة.
جذب تفرد حالة المدينة الصغيرة اهتمام الإعلام والجماهير، وترقب الجميع موعد صعود «طومسون» إلى منصة الإعدام للقيام بدور اعتاد الرجال على الضلوع به على مدار التاريخ، غير أن بحلول الـ 14 من أغسطس كان لرئيسة قوات الشرطة خطة مختلفة لم يدرِ بها أحد من المواطنين الذين تجمعوا بأحد الساحات الرئيسية بالمدينة لمتابعة تنفيذ الحكم، حيث كانت ولاية «كنتاكي» هى آخر الولايات الأمريكية التي تُبيح قوانينها علانية تنفيذ أحكام الإعدام.
فخلال اتفاق سري تنازلت «طومسون» عن تنفيذ الحكم لصالح ضابط الشرطة السابق، آرثر هاش، بينما تولى الإشراف على عملية الإعدام الجلاد المُحترف « فيل هانا».
وعلى الرغم من أن الفصل الأخير من حياة «بيثيا» انتهى بتحرير فخ المشنقة، وإعلان وفاته من قبل طبيبين بعد 10 دقائق من تنفيذ الحُكم، ليواري جسده الثرى في مقابر «روزهيل إلموود» في قبر متواضع غير مُميز بأي علامات ليلحق بذلك ضحيته، إلا أن قضية مدينة «أونسيورو» لم تنته حينها، بل استقبلت المدينة في أعقاب تنفيذ الحكم هجوم إعلامي مدوي، وصف تنفيذ حُكم الإعدام العلني بـ«كرنفال جماهيري»، حيث رصدت بعض الصحف أنذاك وجود أجواء احتفالية بين الحشود المتزاحمة لمُشاهدة حُكم الإعدام، وتواجد بعض من باعة الـ Hot Dog الأمريكي الشهير و«الفشار» والمُقرمشات لتسلية المُتفرجين، لتظهر المدينة في ثوب قاسي يشع جمود ويفتقد الإنسانية بين سائر المدن والولايات الأمريكية، لتخرج منشيتات الصحف الكبرى مُشيرة بأصابع الاتهام للمدينة الصغيرة، لتتحول قضية «بيثيا» إلى قضية وطنية على مدار أيام.
وفي حين يصف مُساعد المدعي العام السابق بولاية «كنتاكي» حالة الجماهير أثناء تنفيذ حكم الإعدام بالأقرب للوجوم والرعب منها إلى الاحتفال والتسلية، إلا أن ادعائات الصحافة وحملات الضغط الإعلامي وقتها أفضت في النهاية لقرار من الجمعية العامة لولاية «كنتاكي» ألغت فيه إمكانية تنفيذ أحكام إعدام علنية بالولاية عام 1938، لتُصبح بذلك أخر الولايات الأمريكية التي تستغنى عن الشكل الكلاسيكي لعقوبة الإعدام.