يبني المخرج الإيراني محسن مخملباف صورة رئيسه المستبد من استعارات من كل صور الديكتاتوريات والاستبداد والتسلط التي عاشها عالمنا في القرنين الأخيرين، وإن كان مشهده الأخير يحيل بقوة إلى لحظة القبض على الرئيس الليبي السابق العقيد معمر القذافي.
ففيلم “الرئيس” الذي افتتحت به تظاهرة آفاق في الدورة 71 لمهرجان البندقية السينمائي، حرص أن يضع لافتة في بدايته تشير الى أن أحداثه لا تجري في بلد محدد، إلا أن مواقع تصوير الفيلم في جورجيا وصورة البيروقراطية العسكرية المتسلطة فيه تحيلنا إلى دول جنوبي الاتحاد السوفياتي السابق.
كما تفرض الأحداث الجارية في المنطقة العربية وسقوط بعض الأنظمة المستبدة فيها نفسها بقوة على سياق الفيلم، كما في مشهد النهاية الذي أشرنا إليه.
بيد أن ديكتاتور مخملباف يظل صورة استعارية سينمائية، تحمل ملامح من كل هؤلاء وتفرض خصوصيتها في مسار الاحداث في سياق النوع الفني نفسه، ونعني الفنون الأدائية في المسرح والسينما، وبما يذكر بأبطال التراجيديات المسرحية الكبرى، مع احالة شكسبيرية واضحة للملك لير.
ولمسة مخملباف المميزة في تلك الثنائية التي بنى عليها سرده بين الديكتاتورالمسن وحفيده الطفل الصغير، ثنائية الفساد والظلم مقابل البراءة واكتشاف الأشياء على حقيقتها.
وهذه الثيمة التي خبرها مخملباف جيدا، وباتت مفضلة لدى الكثير من السينمائيين الإيرانيين ومتنفسا لهم بعد الثورة الإيرانية لتقديم نقدهم للواقع القائم وتجاوز شروطه الرقابية الصارمة، في اختيار عالم الطفولة وبراءته كمقابل لفساد عالم الكبار وعنفه وظلمه وتسلطه.
فصبي مخملباف في هذا الفيلم يحمل في حكايته بعضا من ملامح سيدهارتا، في هذه الانتقالة من عالم الغنى الفاحش والسعادة المبهرجة المصنوعة إلى التعرف على حجم البؤس والمعاناة والظلم في حياة الناس اليومية، وهو هنا ظلم الديكتاتورية.
لقد قدم مخملباف في الطفل المعادل الموضوعي لشخصية الديكتاتور التي تزيف العالم، عبر اكتشاف الطفل لهذا الزيف بتجربة مباشرة وعلى المعاناة والظلم الذي يخلفه الاستبداد، ليصبح في نهاية الفيلم الشاهد الوحيد الذي عاش التجربة من كل جوانبها.
كما تعطي هذه الثنائية (الطفل ـ الديكتاتور) للسرد الفيلمي شحنة عاطفية مؤثرة طبعت مسار احداثه، ولمسة معالجة انسانية تنقل الشخصيات من فضاء الصورة النمطية العامة عن المستبد إلى العلاقة الإنسانية اليومية. فالمستبد انسان عادي دون هالة القوة والسلطة التي تغلفه، يحب ويغضب ويندم ويحتال ويكذب ويسرق… الخ.
الديكتاتور “إنسان عادي”
الفرضية الثانية التي يبني عليها مخملباف سرده السينمائي، هي ما الذي يحدث للمستبد عند تجريده من هالة السلطة والقوة التي تغلفه، وكيف سيتحول إلى مجرد انسان عادي، وما هو مسار سلوكه بين انماط الناس السلوكية، هل سيستحيل إلى رجل قاتل أو سارق أو لص ومحتال أو شخص يدعي المثل او خليط من كل ذلك؟
إذ يمضي مخملباف في اختبار تجربة التجريد من السلطة إلى نهايتها بفعل الثورة وتحويل الديكتاتور إلى شخص مطارد ولص عادي ومتسول ومهرج وموسيقي جوال ومنتحل لصفة سجين سياسي، أي أنها ليست تجربة تجرد عن السلطة مؤقتة كتلك التي كنا نقرأها في التراث وحكايات ألف ليلة وليلة عن المستبد العادل الذي يتنكر ليرى حياة رعيته ويشاركهم همومهم.
يبدأ مخملباف فيلمه بمشهد لرئيس مستبد عجوز (الممثل المسرحي الجورجي ميشا غومياشفيلي) يطل من علو على عاصمته المنارة بالأضواء والنشرات الضوئية الاحتفالية، وليشرح لحفيده (أدى دوره بحضور مميز الطفل الجورجي داتشي ارفيلاشفيلي) لعبة السلطة وغوايتها، ويجعله يمارسها بأن يعطيه تلفونه الرئاسي ليأمر بإطفاء كل أضواء المدينة واشعالها بكلمة منه.
ومع تكرار اللعبة للطفل تنطفئ الانوار كليا و لا تشعل بأوامر الطفل الذي استعذب اللعبة، بل نسمع صوت الرصاص والانفجارات. إنها الثورة.

يحرص مخملباف على أن يجسم الاحساس بصورة الديكتاتور كإنسان عادي بعد تجريده من السلطة
ويرّحل الديكتاتور عائلته (زوجته وابنتيه) إلى الخارج في طائرة خاصة، إلا أن الطفل يصر على البقاء مع جده الذي كان على ثقة من انه سيسحق التمرد ومن ولاء جيشه وتابعيه له، لكن كل شي يتغير بانقلاب الجيش عليه، ليتحول إلى مطارد مع بعض المقربين منه كسائقه وحارس أمنه الشخصي الذي يقتل دفاعا عنه.
يقدم المخرج هنا مشهدا مشوقا وعلى قدر كبير من الشد والتوتر الدرامي، مع ضياع الرئيس ومحاصرته بسيارته الكاديلاك الليموزين وسط الشوارع الممتلئة بالثوار والمتظاهرين.
وكان آخر المتخلين عن الرئيس، هو سائقه الشخصي الذي يتركه بعد هربه بدراجة نارية يسرقونها من رجل مار ويتجهون بها نحو منطقة نائية.
يحرص مخملباف هنا على أن يجسم الاحساس بصورة الديكتاتور كإنسان عادي بعد تجريده من السلطة، عندما يقضي الطفل حاجته ويصر على أن يقوم جده بتشطيفه، والنقاش بينهما وهو يطلب منه ذلك، ويخاطبه بسيادتكم في الوقت نفسه فيقوم بتشطيفه من بركة ماء مطر آسن قريبة.
ولا يخلو هذا الخيط الدرامي (العلاقة بين الرئيس وحفيده) الذي بنى عليه مخملباف خطه السردي الرئيسي من تأثر واضح بفيلم الكوميدي الايطالي روبيرتو بنيني الرائع “الحياة حلوة”، حيث يصور الأب المعتقل الحياة في معسكر الاعتقال النازي، بكل رعبها، كلعبة يجب على الطفل أن ينجح في الاختفاء فيها، عندما يصور الرئيس لحفيده الثورة والاحداث التي تحيط بهما كلعبة يجب على الطفل أن يتجنب أعداء الرئيس فيها.
وهنا تبدأ رحلة الرئيس في التعرف على البؤس الذي يعيشه شعبه والذي تسببت به سياساته ويخفيه جهازة البيروقراطي خلف الصورة المبهرجة لعاصمته.
فيتسلل الطفل عندما يرى فتاة تشبه صديقة طفولته التي كانوا يجلبونها لمراقصته وتسليته في القصر الرئاسي، وسط مجموعة من الأطفال الذين يعملون في مقالع حجارة في أقصى أوضاع البؤس، بينما يتحول الرئيس إلى شخص عادي بل ومجرد لص يسطو على أحد اكواخ هؤلاء العمال ليسرق متاعهم البسيط، فضلا عن غيتار موسيقى يستخدمه للتنكر في صورة عازف متجول، كما يقوم بتسليب حلاق عجوز وابنه من ملابسهما بعد اجباره على حلاقة شعره وتغيير صورته. والطريف أن الحلاق في هذه المنطقة النائية لا يعرف بالثورة ولا يزال يعلق في قلب محله البسيط صورة كبيرة للرئيس.
رحلة العذاب
وبعد سلسلة أحداث ومفارقات في رحلة هرب الرئيس التي ينثر فيها المخرج صور بؤس الناس ومعانتهم الكبيرة، التي نتعرف عليها عبر عين الطفل وأسئلته البريئة، يذهب مخملباف في أطروحة الاستبدال تلك (الرئيس بمضطهديه،بكسر الهاء) الى اقصاها، ليجعل الرئيس متنكرا وسط مجموعة من الهاربين من سجونه الراحلين إلى قراهم النائية، فيجعله يحمل على ظهره في رحلة طويلة أحد هؤلاء السجناء من الذين قلعت أظافرهم بالتعذيب وأصيبت أقدامهم بالغنغرينا، والمفارقة أنه أحد من قاموا بمحاولة اغتياله التي قتل فيها ابنه.

محسن مخملباف أخرج أكثر من 20 فيلما ونال العديد من الجوائز العالمية