ليس لديّ حساب في “تويتر”، وما ينقله لي بعض الأصدقاء حول ما يُقال في ذلك الفضاء الإلكتروني لا يثير دهشتي، لكنّ المثير للدهشة حقاً هو ما لا يُقال، أو لنقل، ما يُقال ضمناً لا مباشرة، ولعلّ آفة النرجسية هي أبرز مظهر من مظاهر هذا الذي يُقال تلميحاً لا تصريحاً في فضاء “تويتر”، ذلك الفضاء الذي يُقاس فيه النجاح بعدد الأتباع، وتُقاس فيه الشهرة بعدد البُلْه من الناس.
ذهب الحياء مع ذهاب ذلك الزمن الذي إذا سمع أحدهم مديحاً يُكال له، احمرّ وجهه خجلاً قبل أن يغيّر مجرى الحديث إلى مجرى آخر، وذهب التواضع مع ذهاب ذلك الزمن الذي إذا سمع المرء مديحاً لا يستحقّه، استاء وغضب، وإذا كيل عليه الثناء بما يستحق، راوغ وأنكر، وصدق الإمام الشافعي حين قال: “أرفع الناس قدراً من لا يرى قدره، وأكبر الناس فضلاً من لا يرى فضله”، كما صدق أحد الحكماء حين قال: “عجبت لمن جرى مجرى البولين كيف يتكبّر”!
أجل، ذهب الحياء وجاءت الصفاقة، وتوارى الكبرياء ليحلّ محلّها الخُيلاء، وما كثرة الرياء في زماننا هذا إلا لكثرة مَن غلا في العُجب والتيه، وما كثرة العُجب والتيه في زماننا هذا إلا لكثرة الوجوه التي جفّ ماء حيائها، لكن يبدو أننا لم نعد نسمي الأشياء بأسمائها، فمثلاً، مفهوم “التبجح” استبدل بمفهوم “تسويق الذات”، كما أنّ هناك من يرى في التواضع علامة ضعف وانكسار!
سأثير اشمئزاز القارئ من خلال المشهد الافتراضي التالي: لنفترض أنّي أجلس في مجلس بين أناس لا أعرف الكثير منهم، ثم أسرّ إليّ أحدهم بإعجابه بما أكتب، فإذا بي ألفت انتباه الجميع كي أطلب منهم الإنصات إلى ما فاتهم من مديح في حقيّ! خليق بمثل هذا المشهد أن يثير اشمئزاز كل إنسان سويّ، لكنه مع ذلك مشهد يتكرّر ليل نهار في فضاء “تويتر” الإلكتروني، فعندما يغرّد أحدهم قائلا: “ما أجمل (س) من الناس وما أحسن ما صنع من أشياء”، يُسارع “س” هذا إلى إعادة التغريدة من دون أدنى قطرة حياء، وكأنه يقول ضمناً: “ما أجملني وما أحسن صنيعي”! بالمناسبة، ماذا لو غرّد أحدهم قائلا: “ما أتعس (س) من الناس وما أقبح ما صنع من أشياء”، فهل يا ترى سيعيد “س” التغريدة؟!
هل يريد القارئ مزيداً من الاشمئزاز؟ هناك من الكتّاب والإعلاميين وغيرهم ممن إذا حضر إلى مكان عام، سارع إلى كتابة تغريدة من هذا القبيل: “أنا موجود حالياً في المكان الفلاني لحضور ندوة حول الموضوع الفلاني”، أو “أنا في طريقي إلى معرض الكتاب”، أو “مازلت مستمتعاً في التجوال في سوق المباركية”! حسناً، لكن ما المطلوب بالضبط عندما يحدّد هؤلاء موقعهم الجغرافي بين الحين والآخر؟ أم أنها مجرّد رسالة ضمنية الغرض منها إتاحة الفرصة أمام المعجبين والمعجبات كي يسارعوا إلى نيل شرف إلقاء التحيّة على صاحب التغريدة؟!
غرور الإنسان تلقّى ضربة قوية على أيدي “كوبرنيكوس” و”داروين”، فالأرض لم تعد مركز الكون، والإنسان لم يعد نصف إله، لكنّ “الأنا الذاتية” كانت وما زالت مركز الكون في عينيْ كلّ نرجسيّ!