في أحد أيام 1914 دخل الضابط البريطاني توماس ادوارد لورنس، المعروف أكثر بلقب “لورنس العرب” إلى بار فندق اسمه “بارون” في وسط مدينة حلب بالشمال السوري، فتناول مقبلات واحتسى ما احتسى، ثم خرج ولم يدفع الفاتورة التي تمر عليها هذه الأيام 100 عام تماما.
نسخة مكبّرة عن تلك الفاتورة، الموجودة أصليتها في المتحف البريطاني، تراها مغلفة بلوح زجاجي ومعروضة منذ زمن طويل عند قسم الاستقبال في صالون الفندق الواقع بشارع استمد اسمه من “بارون” المصنف 4 نجوم، مع أنه يستحق 10 لأنه تاريخي وشهير، ويديره الآن أرمين مظلوميان، حفيد من كان اسمه أيضا أرمين حين بدأ في 1909 ببنائه على ضفة “نهر قويق” زمن الحكم العثماني لسوريا ذلك الزمان.
لماذا لم يدفع الفاتورة؟
عند انتهاء البناء بعد عامين، كان لورنس في 1911 يتنقل في الشمال السوري كعضو في بعثة تنقيب عن الآثار، وكان عمره 23 سنة ذلك العام، فأقام 3 سنوات تعلم أثناءها العربية، وفي 1914 غادر آخر مدينة سورية بعد أن أقام فيها لأيام قليلة في “بارون” الأشهر من أي فندق بالمنطقة ذلك الوقت، فسدد حساب نزوله بالغرفة 202 وهمّ بالمغادرة، طبقا لسيناريو طبيعي تتصور “العربية.نت” أنه حدث تماما.
لكن “يبدو” أنه مر بقرب البار وهو يغادر، فوسوست له الحانة بأن يتناول شيئا من مقبلاتها واحتساء مشروب ما، فدخل واستهلك 6 طلبيات سعرها الصافي 76.70 قرشا عثمانيا، وفق ما نرى بالصورة التي تنشرها “العربية.نت” للفاتورة، وهو مبلغ مرتفع بعض الشيء، فهو تقريبا نصف ليرة “عثملي” مكونة ذلك الوقت من 162 غرشا (قرشا) أو أن المبلغ كان بالقروش ومكوناتها قبل اعتماد العثمانيين لليرة.
وللمقارنة فإن تقريرا في موقع “ويكيبيديا” نقرأه بعنون “الجيش العثماني (1826-1922)” يذكر أن موازنة الإمبراطورية زمن السلطان عبد الحميد الثاني، أي تقريبا العام 1900 كمعدل، كانت أقل من 19 مليون ليرة عثمانية، أو تركية.
حسم غامض على الفاتورة
ونلاحظ أن القيمة العامة للفاتورة هي 92 قرشا و70 من القرش، لكن نادل البار حسم منها 16 قرشا، ربما بسبب سياسة الفندق ذلك الوقت بتمييز نزلائه بحسم معين عن مرتادي مطعمه أو حانته، ممن ليسوا من النزلاء، لظنه “ربما” أن لورنس كان ما يزال في الفندق، لأنه كان سيحتاج إلى بعض الوقت ليعرف أنه غادره وسدد كلفة إقامته فيه، أو ربما قد يكون سبب الحسم شيئا آخر لا نعرفه.
لهذا، وبسبب غيره من معلومات ناقصة، اتصلت “العربية.نت” مرارا بالفندق اليوم الثلاثاء، لتتحدث إلى من قد يشرح المزيد عن الفاتورة وتفاصيلها، وعن الطلبات التي استهلكها رجل ملأ دنيا العرب بالكثير مما يروونه، وقضى بعدها بحادث دراجة وهو بعمر 47 سنة، فردت امرأة أرمينية وقالت إن صاحب الفندق، أرمين مظلوميان، مريض منذ مدة في البيت.
وشرحت بعربية مفهومة أن الفندق مقفل حتى إشعار آخر. أما عن الفاتورة فذكرت أنها لا تعرف عنها معلومات كثيرة، وقالت: “الحالة مش كويسة، والفندق تغير، وما في زبائن.. بارون مسكر”، بحسب ما قالت قبل أن تقفل الخط.
وللإنصاف، فإن لورنس قد يكون نسي تسديد فاتورة البار تماما، كما نسيها العامل فيه، ولم يتذكرها أحد إلا حين إقفال “غلة” ذلك اليوم بعد مغادرته، إلا أن “لورنس العرب” لم يعد للفندق ثانية، فقد غادر في 1914 إلى الأردن، ولم يبق من ذكراه إلا الفاتورة التي لا ندري كم هي القوة الشرائية الآن لقيمتها القديمة، ربما بين 30 و40 دولارا كتقدير سريع.
مشاهير بالعشرات نزلوا فيه
وفندق البارون أحد أشهر فنادق العالم من دون أي مبالغة، ففيه نزل مشاهير بالعشرات، منهم: الروائية أغاثا كريستي التي شغلت الغرفة 203 في 1943 مع وزوجها عالم الآثار ماكس مالون، وفيها كتبت روايتها “جريمة في قطار الشرق السريع” التي تحولت إلى فيلم سينمائي من الأروع.
وفي 1918 نزل في الغرفة 215 الملك فيصل، ومن شرفتها ألقى خطابا أعلن فيه أن سوريا نالت استقلالها من العثمانيين. ونزل فيه أيضا الملك السويدي غوستاف أدولف مع زوجته لويزا، وكذلك الملياردير الأميركي ديفيد روكفلر، والأميرة أليس، وملكة الدنمارك أنغريد، وبيتر أمير اليونان.
نزل فيه أيضا زعماء غابوا عن الدنيا، كالمصري جمال عبد الناصر الذي ألقى خطابا من شرفته، والتونسي الحبيب بورقيبة والأميركي تيودور روزفلت وزوجته، والسوري حافظ الأسد، والفرنسي الجنرال ديغول والتركي كمال أتاتورك ومؤسس الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، إضافة لأول رائد فضاء، الروسي الراحل يوري غاغارين، وبعده أول امرأة ارتادته: فالنتينا تيليشكوفا.
لكن شيئا ما جعل من أطلقوا عليه لقب “لورنس العرب” يرتبط أكثر من سواه بالفندق التاريخي، لذلك علقوا صورته في الغرفة التي نزل فيها منذ 100 عام، وحافظوا على ما كان فيها من أثاث بأيامه، وفرحوا بالتأكيد من عدم دفعه للفاتورة، فبسببها كتبوا عن “بارون” تقارير وتحقيقات، لكن أحدا غير “العربية.نت” لم يخصصها بتقرير، خصوصا لمناسبة مرور 100 عام عليها.
المصدر: العربية