حالة «المسكين» المُشار لها في العنوان، تندرج في مرحلة ما بعد الاستبداد، أي أننا من فرط اليأس، وبعد كل التشخيص الوافي لسلوك الاستبداد والطغيان والتفرد، في محاولاتنا لفهم هذه التركيبة الجينية التي تحكمنا في العالم العربي، وصلنا لهذا الاكتشاف العظيم، المسؤول العربي ليس أكثر من «مسكين» في كل ما هو عليه، ولكنه مسكين من نوع خاص ونادر، فهو مسكينٌ يملك ويدير ويستبد ويخرب ويدمر ويبطل مفعول كل شيء جيد من حوله، كيف؟ هذا ما توصلت له آخر الدراسات العلمية التي تبحث في طبيعة هذا الكائن الغريب، وقد أجرت المختبرات المختصة كل أبحاثها، وعلى المسؤول العربي نفسه، فلا مثيل له من الكائنات الأخرى، أو من أقرانه البشر، مما اضطر عملية البحث العلمي لاستخدام المسؤول في حقل التجارب، كحالة نادرة ومثالية، تجمع الصفات البشرية والحيوانية وصفات الجماد في قالب واحد.
تبدأ المشكلة مع المسؤول من قبل توليه المسؤولية، فهو ينتمي غالبا إلى بيئة مترفة معزولة جاهلة – تدعي المعرفة – ومصابة بلوثة الوهم والانفتاح، والانفتاح له تعريف خاص في هذه البيئات، وهذه الأجواء لا يمكن أن تمنح هذا الشخص القدرة على التعامل بشكل جدي مع أبسط مشكلة تواجه طالب في مرحلة الثانوية، ثم يُطلب من هذا الشخص، وبدون مقدمات، باستثناء اللغة الإنجليزية الركيكة التي يتمتع بها، والتي لا تعد قدرة إلا في عالمنا العربي، نظراً لأنها تسمح لهذا الشخص بالحوار مع طاقم السفارة الأميركية في بلاده، يُطلب منه أن يكون نائباً لوزير الخارجية، أو وزيراً للدفاع، أو رئيساً لمنظمة السياحة، أو مسؤولاً لهيئة الدفاع الوطني، أو وزيراً للإعلام في بلاده، وفي أقل الأحوال سفيراً في واشنطن أو في دولة أوروبية بارزة!
الرجل، الذي لم يتعرف في حياته على أكثر من خمسة أشخاص، أربعة منهم هم مرافقوه الشخصيين، ولم يتجاوز المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، سوى بدعم واهتمام ورعاية الأسرة ونفوذها، ولم يستطع إنها المرحلة الجامعية –إن كان أنهاها– إلا بفضل جهود الباحثين المتفرغين وأولئك الذين يعملون بنصف دوام، يتولى فجأة، ودون تأهيل –مشكوك في قدرته على التأهيل– مناصب حساسة في الدولة تتوقف عليها مصائر البشر، فماذا يحدث بعد تولي هذا الرجل، ومؤخراً المرأة، لهذه المناصب؟ غالباً نحن أمام خيارين، الأول وهو الدارج، يعتمد المسؤول على مساعد له من المواصفات ما يناسب مزاج وطبيعة وقدرات المسؤول نفسه، ويتولى هذا المساعد كل صلاحيات «المعزب» دون أن يؤذي مشاعره، فهو يوهم المسؤول أنه هو من يتخذ القرارات، ويضع الاستراتيجيات، ويرسم المستقبل لهذه البلاد العظيمة بوجوده وهيبته وكشخته وصوره التي تملأ الصحف، ويقوم المساعد، الذي لا توجد أدنى ضمانة على كفاءته ونزاهته، فغالبية من يقوم بهذه الأدوار يتمتعون بقدر ضئيل من الكفاءة، وقدر أقل من النزاهة، يقوم بكافة الأدوار المطلوبة، ومنها إدارة أمور المسؤول الشخصية، التي تزدهر وتكبر وتتجاوز أمور الإدارة أو الوزارة التي يتولاها، ويستمتع المجتمع بحديقة الفساد والترهل والهبل الذي لا حدود له.
الخيار الثاني، والذي لا يتم الاعتماد فيه على مساعد أو مستشار -يشبه- صاحبه، يمكن تسميته الخيار المصيبة، يتوهم المسؤول الذي اختير بلا أدنى كفاءة ولا معرفة ولا ثقافة ولا حس لوزارة ما، أنه الوزير لها، ويتصرف على أنه وزير حقيقي، يعرف بشؤون الدفاع أو الخارجية أو الإعلام وغير ذلك، ويرتكب من الحماقات التي لا يجد العاملون في وزارته عملاً سوى كيفية التخفيف من ضررها، أو الانتفاع منها، أو التكيف معها كأمر واقع، وتنتشر الأمراض النفسية، يضطر هؤلاء وأسرهم والمستفيد من خدماتهم لمعايشة هذا الكسوف ما شاء الله، أو حتى الكسوف الذي يليه برحيل هذا الوزير الفذ، وقدوم فذ آخر، يرتكب من الحماقات والأخطاء ما يكفل للأطباء النفسانيين ازدهار نشاطهم واكتظاظ صالات عياداتهم الخاصة.
كيف يمكن أن نتقدم، ونحن أمام مسؤولين يصفق لهم الناس قبل اتخاذ القرارات، وبعد اتخاذها، ويصفقون في حال العدول عن القرارات نفسها واكتشاف كارثيتها! كيف يمكن أن نتقدم والبيئة الحاضنة والمنتجة للمسؤولين مفصولة تماما عن المجتمع، وهي بيئة تحجز مقاعدها في المناصب العليا من دون أدنى جهد، ودون التسلح بخبرة أو معرفة أو أدنى ذكاء؟ كيف نتقدم ونحن لا نملك حق النقد، ووصف الأخطاء بأنها أخطاء، من دون تجريح وتسفيه وإهانة؟
ربما يجب أن لا نتقدم، وطرح هذا السؤال مجرد مؤامرة وخيانة وعمالة، السؤال الأصح في عالمنا: كيف نتراجع !