قبل أيام كتب الصديق العزيز محمد الوشيحي، مقالا في جريدة الوطن القطرية تحت عنوان: الهنكرة والمنكرة، يطعن فيه بالذات العروبية، ويسيء إلى تاريخ القومية العربية المجيدة في بلادنا، ويسخر من كل إنجازاتها، والوشيحي، بدوي منشق، يتقلب بين بلدان الجزيرة كيفما اشتهى، وهو ابن أصيل للعروبة، تجد آثار أجداده في كل بقعة، من جنوب جزيرة العرب إلى شمالها، لكنه قرر التحالف مع الرجعية العربية، والانكفاء على قُطريته، ظنا منه أن هذه الأوطان الصغيرة تشكل نهاية لهوية الإنسان في بلادنا، وكفاية لحاجته، وغاية لبقائه واستمراره، ولأن «صبي» يام العزيزة، عزيز على قلوبنا، وقدره كبير، رغم ردته وكفره بالعروبة، أدعوه للجلوس في المقعد الخلفي، وتناول القهوة الشمالية السوداء، القادرة على طرد كل أنواع الكسل والخدر، والكفيلة بإزاحة الغشاوة عن عينه، وجعله يرى ما يجب أن يرى في هذا الخصوص.
إن كل ما قامت عليه فكرة القومية العربية، هو ذلك الرابط المشترك بين أبناء هذه البلاد، من طنجة إلى ظفار، ودعنا يا عزيزي محمد نتفق على أمر، هذا الرابط هو الثابت، وكل المشاريع السياسية التي قامت على أساس هذا الرابط واتكاء عليه واستغلالا له، هي مسألة قابلة للنقد والطعن والمخالفة، ويمكن ضرب عدة أمثلة على هذا الأمر، الديمقراطية في الكويت وما آلت إليه، مجمل النتائج التي توصلنا لها غير جيدة، وهذا كله لا يعني بأي حال من الأحوال سوء الفكرة الأصلية المرتبطة بالمشاركة الشعبية وخيار الديمقراطية، الطريقة المعتمدة في اعتماد فكرة ما، لا يمكن أن تعبر بشكل متطابق عن الفكرة نفسها، قد تنحرف وتتغير وتستغل بشكل سيء، ودعنا نعود يا صديقي إلى أباطرة المشروع القومي العربي في المنطقة، وما فعلوه بنا طوال العقود الماضية، لك أن تتخيل أن كلا من صدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد هم نجوم هذا المشروع! هذا الثلاثي الذي أمعن في الإجرام والتنكيل والقتل وتقديم أبشع صورة، ليس كنظام قومي عربي فقط، بل الأبشع في فكرة الإدارة وبناء المجتمعات، هو ما نعتمده اليوم، أنا وأنت وغيرنا، لتقييم الفكرة القومية ومضمونها وما قدمته من إسهامات في حياة الأمة!
ومن هنا تكون قيمة التجديد، الذي لا يقوم على نسف الأساسات لفكرة صحيحة، بل البحث في آليات اعتمادها وتطبيقها على الواقع، كما فعل الدكتور عزمي بشارة، الذي وضع اشتراطا لهذه الرابطة، لا يمكن أن تقوم من دونه، يتمثل في الديمقراطية كنظام معتمد للإدارة يقوم على فكرة المواطنة، إذاً الإطار العام عربي يمثل الهوية الأساسية لأي كيان يقوم، في الدولة الواحدة، أو مجموعة الدول، والديمقراطية نظام حكم يقوم على فكرة المساواة الكاملة بين مجموع المواطنين، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم، أو البديل الكارثي الذي يلوح في الأفق هذه الأيام، دولة المذاهب والأعراق والقبائل.
ودعنا نتذكر ما ثار في الكويت قبل سنوات يا عزيزي محمد، لما أصبحت أنت وغيرك من البدو الرحل تعيرون بالازدواجية، بحجة الانتماء العابر للحدود، ومع أكثر من بلد، والمقصود هو الانتماء للسعودية على وجه التحديد، وكان اتهاما صحيحا سليما لا غبار عليه، بعيدا عن مسألة الوثائق والجنسيات، فأنت يا محمد وأمثالك من البدو وأبناء الحاضرة العرب مزدوجون من رأسكم حتى أخمص القديمين، وإن أنكرتم ذلك، وادعيتم أنكم نبتة لا جذور لها وجدت فجأة في المكان الذي أنتم فيه الآن، هل تنكر أنك سعودي؟ وقطري؟ وإماراتي؟ وبحريني؟ وعماني؟ ويمني؟ وهل ينكر الآخرون أنهم نجديون وعراقيون وبعضهم من بلاد الشام؟ كان حديث الازدواج صحيحا مئة بالمئة، الخطأ الذي حصل هو بتحويله إلى تهمة! الغباء التاريخي الحاصل في بلداننا هو الاعتقاد أن الاكتفاء النفطي الحالي والمؤقت كفيل بخلق هوية خاصة ومستقلة تماما عن الآخرين! ماذا يفصل آخر بيت في الجهراء عن أول بيت في حفر الباطن يا محمد؟ كيف يمكن أن تعرف «العجمي» الموجود في الصباحية بشكل مستقل عن «العجمي» الآخر في الصرار أو الوادي؟ إن حجم «الكم» في ثوب كل منا وعدد الأزرار المستخدمة، التي اختارها الخياط الباكستاني، لا تشكل عناصر كافية لهوية مستقلة يا محمد! المسافة التي تقع بين «كذي» و «كذا» و «كذيه» لا يمكن أن ترسم الحدود اللازمة بين الهويات يابوسلمان!
إن قضايا الأمن والاقتصاد والهوية، تشكل ركائز أساسية في الدولة الوطنية الحديثة، وغالبا لا يوجد استقلال أمني في دويلاتنا المباركة، باستثناء التبعية الأميركية الواحدة، والاقتصاد بشكله الحالي لا يشكل ضمانة لاستمرار بقائنا، بقي الهوية التي نعمل كل يوم على تفتيتها باستسهال كبير، مثل ما جرى في العراق، وأصبح العراق شيعيا وسنيا وكرديا، بعد أن كان عراقا عربيا واحدا، تمت إدارته بطريقة سيئة فقط، العروبة إجابة جادة وعملية وواقعية على كثير من مشاكلنا، وحل لاعوجاج أساسي في تركيبتنا الوطنية، وسيأتي اليوم الذي نضطر لاتخاذها مرتكزا في إعادة البناء، وهو يوم قريب لا محالة، أيها البدوي العروبي الجميل.