أفهم تماما أن ينحاز المثقف لجهة معينة في أي صراع راهن يراقبه من بعيد أو ينغمس فيه بطريقة أو بأخرى. وأفهم أيضا أن يدافع عن الجهة أو الجماعة أو القضية المنحاز إليها بكل وسائله التي يجيد استخدامها واستثمارها كمثقف. بل هذا هو الدور المتصور والمطلوب، كما أرى، من المثقف؛ أن ينحاز لوجهة نظره وأن يدافع عنها، وأن يعمل على تعميمها أيضا.
لكني لا أفهم أن ينحاز المثقف للسلطة السياسية في بلاده بكل ما تتخذه من قرارات حتى لو كانت تلك القرارات متناقضة أو متصادمة بعضها مع بعض أحيانا.
من المعروف عن السلطة السياسية في أي بلد في العالم أنها تتخذ قراراتها غالبا لا بناء على مبادئ أخلاقية ثابتة بقدر ما تتخذها بناء على معطيات سياسية متحركة وفقا لحركة مصالحها. وهذا لا يعيبها بالضرورة، فهو من طبائع الأمور أحيانا. والسياسي الناجح هو من ينتبه لتغيير دفة القيادة في السفينة التي يقودها لا حسب اتجاه الريح وحسب، بل أيضا حسب قراءته للخريطة المرسومة أمامه. صحيح أن الخطوط الأساسية في تلك الخريطة ثابتة غالبا، ولكن الخطوط التي يرسمها الربان أو السياسي على تلك الخريطة، والتي تؤدي بسفينته الى هدفها عبر أقصر طريق وايسر طريقة متغيرة في تلك الخريطة. ولعل هذا الأسلوب في عمل السياسي تحديدا، أحد أهم الفروق في العمل بينه وبين المثقف. وهذا على أية حال لا يعني اختلافهما في كل شيء ولا حتى في الفكرة التي ربما يختلفان في أسلوب التعامل معها.
في الآونة الأخيرة شهد الوطن العربي كله حالة استقطابية متقدمة جدا، وهي حالة عامة لم نشهدها بهذا الشكل الحاد والشمولي منذ الغزو العراقي للكويت يوم الثاني من أغسطس 1990 وما تلاه من تداعيات وأحداث بدأت بتدخل القوات الأجنبية في المنطقة لتحرير الكويت ولتحقيق أهدافها الأخرى. أما الحالة الاستقطابية الراهنة فقد نتجت عما خلفته ثورات الربيع العربي، وخصوصا في مصر، من أوضاع ضاعفت الانقسامات حول تلك الثورات أولا ثم حول تداعياتها أكثر من مرة.
وهذا وضع مفهوم ومنطقي جدا، لكن غير المفهوم أن تحدث تلك الانقسامات بين الناس لا بناء على القناعات، مهما كانت صحيحة أو خاطئة، فلسنا هنا في طور الحكم عليها، بل بناء على القرارات السياسية في هذا البلد أو ذاك. وإذا كان اتخاذ القرارت بناء على مواقف السلطات هنا أو هناك غير مفهوم أو مقبول إلا على مضض أحيانا عندما يقوم به «الناس» عموما، فإنه يبدو مستهجنا جدا عندما يقوم به المثقفون بالذات.
خلال الأيام الأخيرة الماضية، على سبيل المثال، تابعت بعض كتابات بعض المثقفين، أو المستثقفين، المتحولة بطريقة أوتوماتيكية وفقا لتحولات ومواقف السلطة في بلادهم، ولاحظت روح الشماتة التي تغلف هذه الكتابات، بما يحدث على يد السلطة نفسها، لمثقفين آخرين اختاروا أن ينحازوا لقناعاتهم بعيدا عن رأي السلطة. تابعت واستغربت، ثم استهجنت، ثم تذكرت مقولة إدوارد سعيد الرائعة «المثقف يتوقف عن كونه مثقفا إذا اقترب من السلطة». وها أنذا أذكّر بها.. لعل وعسى!