لو زارنا ضيف من كوكب آخر، لأخذته الدهشة مما يراه من غرائب في عالمنا هذا. البليونيرية (أصحاب البلايين) يتكاثرون كالفقع بعد أمطار الوسم… حتى إن مجلة فوربس، المعنية بهذه الشريحة من البشر، عجزت عن إحصائهم، فلم يعد هؤلاء الأغنياء كالسابقين لهم من تجار عقار أو إقطاعيين وصناعيين، بل انضمَّت إليهم مجموعات مختلفة من أبطال رياضيين في ألعاب عدة، ككرة القدم والتنس والسيارات والدراجات، وممثلين وعارضات أزياء وملكات جمال وموسيقيين ومغنين وعباقرة وسائل الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة، كالمبدع بيل غيتس، وعباقرة الأسواق المالية، ولا ننسى تجار الدين، بطلعاتهم التلفزيونية ومحاضراتهم ومعالجتهم للمرضى، وازدهار مبيعات أشرطة محاضراتهم ومظاهر البذخ البادية على معيشتهم.
واللافت للنظر، كذلك، ازدهار تجارة البضائع الفاخرة، كالسيارات الباهظة الثمن والطائرات والشقق الفاخرة ذات الأسعار الخيالية، والحجز في أفخم الفنادق الراقية، حتى قبل أن يبدأ بناؤها… وكذلك ما يُصرف من أموال مبالغ في ضخامتها في مناسبات احتفالية للمرح أو للزواج.
مقابل كل هذا، نرى البديل المؤلم والمحزن… نرى فقراً مدقعاً… وأطفالاً يموتون من الجوع أو المرض في جميع القارات، وعائلات لا سكن لها غير الساحات المهملة والطرقات العامة، لأن ميزانيات هذه الدول تُصرف على الحروب وآلاتها المدمرة.
وهكذا، نرى 1 في المئة من البشر يموتون من التخمة، و99 في المئة يعيشون في عذاب.
فلا عجب إذا رأينا مظاهر غريبة، يصعب على كثيرين فهم لماذا كل هذا الدمار الذي يحلّ بنا؟ ولماذا نرى الاقتتال في كل مكان، وكأننا نعيش في جحيم؟!
ألا نقف مذهولين عندما نرى أطفالاً يحملون السلاح لقتل أطفال مثلهم أبرياء ونساء وطاعنين في السن؟!… لا، بل نرى هؤلاء الأطفال يفجرون أنفسهم، فرحين مستبشرين بدخول جنة في انتظارهم توفر لهم ما يطمحون إليه من لذة يحلمون بها… ونرى شباباً وشابات من مختلف أنحاء العالم يتسابقون للالتحاق بكل منطقة توفر لهم الفرصة للاشتراك في هذا العرس الدموي المجنون.
فما نتيجة هذا الوضع؟
الجواب، هو انبثاق غضب شعبي عالمي، بأغلبية شبابية رافضة لهذا الواقع المعيب، وليد ثقافة عالمية جاهلية لاتزال تتحكم في البشرية جمعاء، منذ بدء الخليقة… صراع وحروب عبثية لأسباب كثيرة وليدة هذا الضياع الذي نعيشه.
نحن نشاهد الآن جيلاً جديداً يرفض كل هذا ويريد التغيير في نمط الحياة، ويتمرد على أقطاب هذا الفساد العالمي وهو مصمم على القضاء عليه.
هذا الغضب عبَّر عنه بشكل رائع ج. د. سالنغر (J.D. Salinger) في روايته «الحارس في حقل الشوفان» (The Catcher in the Rye)، وهي قصة شاب أميركي فقد معظم أصدقائه في الحرب العالمية الثانية عند تحرير أوروبا من النازيين، فهو يتساءل، لماذا زُج به في هذه الحرب التي هي صراع بين دول استعمارية للحصول على مستعمرات؟ لأنها ضرورية لإنعاش اقتصادها، فبعضها له حصة الأسد من هذه المستعمرات، وبعضها الآخر لا حصة معقولة له من هذه الغنائم، كألمانيا وإيطاليا، وكذلك اليابان.
في هذا الكتاب انتقاد مرير للنظام العالمي الظالم، وقد لاقى هذا الكتاب إقبالاً غير مسبوق، لجرأته الواضحة، وظل هكذا إلى يومنا هذا منارة لشباب العالم الذين يريدون التغيير.
والسؤال هو: ما الذي يريد تحقيقه هؤلاء المتمردون؟ الكل متفق على حل المشكلة الماثلة أمامهم، إلا أن لكل مجتمع مشكلته الأساسية، وهنا نرى الاختلاف في أهداف الكثير من المحاولات.
يمكن القول إن أول ربيع عالمي كان في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا، وتم القضاء عليه بتحالف المجموعات الحاكمة والمؤثرة في المجتمع بمجزرة رهيبة كان ضحاياها بالألوف، إلا أن رسالتهم لم تمت… فبعد ثلاث سنوات فقط بدأ النظام الديمقراطي، وأنهى عبودية البشر في أوروبا والاستعمار.
وفي أواسط القرن الماضي أدَّى تحرك الشعب الأميركي إلى وقف حرب فيتنام، التي ذهب ضحيتها الألوف من الشباب الأميركيين في هذا البلد البعيد عن الولايات المتحدة الأميركية بآلاف الأميال.
الانزعاج الشديد من هذه الحرب، ورفض الشباب المشاركة فيها عبر تظاهرات صاخبة عمَّت البلد كله، وأصبحت الحروب لعنة مرفوضة.
هذا المزاج مثلته أغنية “الحرب” التي غناها Bruce Springsteen، واحتلت المركز الأول بين أغاني ذلك العصر، كما ذكر Ian Morris في كتابه “الحرب” عام 2014.
تقول الأغنية في نهايتها:
It ain’t nothing but a heartbreaker
!War
Friend only to the undertaker
وكذلك، أنجز التحرك الشبابي الفرنسي، في أواخر القرن الماضي، تطوير التعليم في فرنسا، الذي نراه الآن، وكذلك النظام الصحي، الذي يُعد من بين أفضل الأنظمة في العالم.
وفي بريطانيا، تحرَّك شباب “الهيبز”، كما يسمونهم، لتحرير بريطانيا من الجمود الطبقي المهترئ، الذي تسبب في تخلفها وتحولها إلى دولة من الدرجة الثالثة.
ودخلت المرأة إلى مجلس اللوردات بكثافة، وتم تغيير تشكيلة المجلس، ودخلته عناصر شعبية أبدعت في مجالات عملها المتعددة، من مثقفين وفنانين ورياضيين وغيرهم، ولعل أكبر ظاهرة لتلك الحقبة ظهور فرقة البيتلز والأميرة الشعبية ديانا.
ويجب ألا ننسى ما حصل في بقية الدول الأوروبية، كإنهاء الحكم الشيوعي في بولونيا، بقيادة عمالها، وكذلك الثورة البرتقالية في أوكرانيا، التي أطاحت حكاماً فاسدين، وكذلك شباب يوغسلافيا، عندما أطاحوا الرئيس سلوبودان ميلوسوفيتش أستاذ صدام حسين.
كان واضحاً أن هذه التحركات إقليمية في أغلبيتها، ولم تأخذ البعد العالمي بعد.
ويمكن التذكير بالتحرك العالمي، الذي حصل أثناء الثورة الإسبانية على الدكتاتورية، عندما أطاح الجنرال فرانكو النظام الديمقراطي، فهبَّت الجماعات الديمقراطية في أوروبا وأميركا إلى التطوع للقتال، بعدما تدخل النازيون الألمان والفاشستيون الطليان لمساعدة فرانكو، وخلَّدهم الفيلم الرائع “لمن تقرع الأجراس”.
نحن الآن نشاهد الظاهرة نفسها… جموع شبابية بالآلاف تتدفق على مناطق القتال، المطالبة بالتغيير، لأنها عاجزة عن الفعل في أقطارها، وأخرى تساهم بحشد التأييد في دولها بالمهرجانات والمسيرات والتبرعات، مستغلين جميع وسائل الإعلام لشرف قضيتهم.
ما نراه الآن، بشكل واضح ومؤثر، في جميع القارات، هو الدعم للنضال الفلسطيني في غزة، وإدانة الكيان الصهيوني الاستعماري الاستيطاني القبيح.
هل ما نراه الآن فوضى عارمة لا فائدة منها، لأنها من دون برنامج أو قيادة؟
الجواب بالنفي الكامل.
ما نراه الآن هو تشخيص عالمي للواقع ورؤية واضحة جداً للعالم، الذي يريده الشباب المسالمون، المضحون بحياتهم.
نحن نشاهد الآن المخاض العسير لهذه الثورة، ونرى الشباب المسالمين يضحون بحياتهم، وبالآلاف، من دون كلل أو ملل، وهم يطيحون هذه الهياكل المهترئة في العالم، الواحد تلو الآخر.
أنا أحزن عندما أجد كُتاباً، أحترمهم، يهزأون بهذا الحراك الشبابي العالمي… لا، بل يتهمونهم بالخيانة والعمالة.
من يقول إنه مثقف ومحايد ويريد أن يعرف حقيقة هذا الحراك الشبابي العالمي، أقترح عليه أن يقرأ الكتاب التالي، وهو دراسة جادة توضح الكثير مما نجهله، واسم الكتاب “Generation We” للكاتبين Karl Weber وEric Greenbery، وكذلك Diaries of An
Unfinshed Revolution، وهو حاصل على الجائزة الإنكليزية Penaward والكتاب لليلى الزبيدي وMathew Cassel.، وهي مذكرات لناشطين بارزين في الدول العربية المختلفة، التي تأثرت بالربيع العربي، وكيف تحول هؤلاء الشباب من شباب عاديين غير مسيسين إلى ناشطين فاعلين، كل في بلده.
ما نشاهده الآن ليس انقلاباً، بل هو تصميم على نسف ثقافة وحضارة موغلة في الفساد، لبناء مستقبل يعيد للإنسان كرامته، ويوفر له حياة كريمة ولذريته من بعده… إنها ثورة الكرامة لكل إنسان شريف… صحيح إن الثمن سيكون غالياً ومؤلماً، لكننا يجب أن نتقبل ذلك بكل رحابة صدر… لا، بل يجب أن نبارك ونساعد، كل وفق إمكاناته، لإيجاد مجتمع المحبة والسلام والحياة الكريمة للبشرية جمعاء.
المفكر السياسي ومستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، زبيغنيو بريغينسكي، نشر مقالاً في بداية الربيع العربي، جاء فيه: “إن هذه أول ثورة عالمية تشهدها البشرية لتغيير مسار العالم، وستواجه صعوبات جمة، إلا أنني متأكد أن القطار قد بدأ مسيرته، وسيصل إلى المحطة الرئيسة حتماً، إلا أنني لا أستطيع القول متى سيتم ذلك”.