لماذا لم يبادر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الشهير بـ «داعش» إلى الاتحاد مع الفصائل الإسلامية الأخرى مثل أحرار الشام وحركة المجاهدين، بل حتى «شقيقته» جبهة النصرة، على رغم أنه يتفق معها في الخلفية السلفية، وهي مثله ترفض الديموقراطية وتنادي بدولة إسلامية؟ الإجابة بسيطة جداً. لأنه هو «الدولة»، فكيف تنضم الدولة إلى تنظيمات؟ بل إنه يرى أن على هذه التنظيمات الدخول تحت مظلة «الدولة»، ومبايعة «أمير المؤمنين» أبو بكر البغدادي على السمع والطاعة في المنشط والمكره.
هذه الحقيقة البسيطة مكلفة جداً، فهي تفسر الحرب الأهلية الصغرى في داخل حرب أهلية أكبر، والدائرة رحاها الآن في شمال سورية بين تحالف من كل القوى الإسلامية وبين «داعش»، ذلك أنها بمنطق الدولة علَت وتجبرت، فاعتقلت هذا وأعدمت ذاك في المناطق التي كانت تحت سيطرتها، ويكشف سجل للمعتقلين في سجونها حصل عليه أحد المقاتلين، أن «سبّ الدولة» كان من أسباب الاعتقال، فمن الواضح أنها وإن كانت «إسلامية» فإنها لا تقبل بالرأي الآخر، وسيجد أنصارها تبريراً لذلك بـ «لما له من تفريق لصف المسلمين».
فكرتا «الدولة» و «أمير المؤمنين» قديمتان اختصت بهما الحركات السلفية الجهادية، وأحسب أنها تبلورت ما بين أحراش الجزائر وضواحي لندن، فبعدما أوقف انقلاب عسكري المسار الانتخابي في الجزائر في كانون الثاني (يناير) 1992، واعتقل الآلاف من قادة وأنصار «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» التي فازت في الانتخابات، تردت الأمور هناك حثيثاً، وتدافع التيار السلفي والغاضبون من الإنقاذ للصعود «إلى الجبل» هرباً من الاعتقال، وللّحاق بحركات جهادية عدة تشكلت، قادها مهمّشون حتى من الحركة الإسلامية الجزائرية، وكانوا بالفعل بسطاء من العامة، بحظ قليل من العلم الشرعي، وإذا بهم بعد أعوام يتحولون إلى «أمراء» يفتون في رقاب الناس بما في ذلك رفاقهم في «الجهاد».
أساس هذه الجماعات كان سلفياً، رافضاً وكافراً بفكرة الديموقراطية، كان كامناً في أحياء الجزائر البائسة خلال أعوام ربيعها القصير العمر، ولكن لم يكن لهم مكان وسط قادة الحراك على السطح الذين ارتضوا التدافع بالديموقراطية، ولكنهم انفجروا بأفكارهم المتطرفة وهم أحرار في الجبال، وقد تمنطق أحدهم بسلاح والتف حوله الأتباع، فانتقل بخياله إلى عالم الفتوحات والقائد البطل الذي يقيم دولة الإسلام والعدل بعدد بسيط من الرجال، فيتفتح الله عليه القُطر تلو الآخر حتى تدين له الأرض بمن عليها.
ربما كانت البداية في أوائل عام 1994 عندما اتحدت فصائل عدة تحت راية «الجماعة الإسلامية المسلحة»، واتخذ قادتها ألقاباً مفخمة مثل أبو عبدالرحمن الأمين، وأبو عبدالله أحمد، وأصبح المقاتل الثائر مفتياً وفقيهاً، ولقلة علمهم وتأسيسهم المتطرف، مضوا من تطرف إلى تطرف، ولكنهم كانوا دوماً يسبغون على تطرفهم وقسوتهم تعليلات شرعية، وتخريجات من أقوال السلف، حتى أعدموا بها رفاقهم وبعضاً من أهلهم، وقصصهم في ذلك متواترة حتى في دائرة أنصارهم، وقد جمعها الناشط أبو مصعب السوري، الذي اتهم يوماً بأنه كان يغذي هذا التيار من لندن في كتاب عنونه «شهادتي على الجهاد في الجزائر»، التي يروي فيها كيف ضاق هو بتطرف الجماعات فابتعد عنها، ولكن استمر ناشط آخر في دعمها وهو أبو قتادة الفلسطيني، الذي سلمته الحكومة البريطانية للأردن أخيراً.
الرغبة في الهيمنة على الآخرين كانت وراء فكرة إعلان «الدولة» وإمارة المسلمين، فأحد ما – لا نعرفه – كان في لندن أو الجزائر أو بيشاور، اكتشف من بين السطور الغزيرة لمؤسس الفكر السلفي ابن تيمية (1263- 1328) مسألة «الطائفة الممتنعة» و «الطائفة المنصورة»، ففهم منها أن إعلان جمع من المسلمين وإن قلّوا اجتماعهم حول أمير واحد يجعلهم طائفة منصورة على الحق لا يضرها من عادها، وغير ذلك ممن علم بأمرها، ومن لم يدخل في طاعتها فهو حلال الدم والمال حتى ولو كان مصلياً ومجاهداً. فاستباحوا بذلك حرمات من حولهم من قرويين وجماعات مقاتلة مثلهم. استمر التطرف في هذه الجماعة حتى بلغ يوماً أن أصدر أحد أمرائها فتوى عشية مناسبة انتخابية في الجزائر سماها: «ضرب الرقاب لمن خرج يوم الانتخاب… والأمن لمن لزم بيته وأناب».
تلك الأجواء الغامضة التي سبقت تأسيس «القاعدة»، هي ما تعيشه «داعش» حالياً، فهي تنظيم حقيقي نتج من اتحاد جماعات جهادية في العراق، واندثار أخرى، مع تداخل مع بقايا البعث ومخابرات صدام حسين، صنعت تاريخها وخبرتها خلال أعوام الحرب ضد الأميركيين، ثم فجأة يظهر تنظيم يقول إنه هو «الدولة» لا يحارب المحتل فقط، ولا الدولة «المرتدة» بحسب قناعاته، وإنما يحارب أهله وعشيرته الذين ضاقوا به، ويلزمهم ببيعته وطاعته، فظهرت «الصحوات» التي يكن لها كراهية شديدة، ويتهمها بأنها صنيعة الأميركيين، واستدعى المصطلح نفسه عندما امتدت «الدولة» التي لا تعترف بحدود إلى الشام، فأطلقت على التنظيمات التي تناوئها «الصحوات» وعلى أفرادها لقب «صحوجي».
إنهم مثل أسلافهم الذين حَلِموا بالدولة الإسلامية في جبال الجزائر، يعيشون في عالم ماضوي تماماً بأحكامه ومسمياته، فأفغانستان هي خراسان، وباكستان بلاد السند، وينقلون من كتب التراث والسيرة والفقه نصوصاً يحشرونها كما هي في واقع لا يمت لها بصلة، ومنعزلون عن الواقع، فلا دول قائمة أو حكومات، ولا أنظمة أو قوانين دولية، ولا يحسبون حساباً لموازين القوى، وبالتالي لا يرون بأساً في أن يبايعوا أحدهم أميراً للمؤمنين، ليس أميراً للتنظيم، وإنما يرونه بالفعل أميراً لكل المؤمنين، بل حتى فكر البغدادي في إعلان الخلافة وهو يعيش متخفياً، في بيت حديدي مسبق الصنع على الحدود التركية، فيرسل نقباءه لجمع البيعة له، فيقف النقيب فيهم خطيباً يحمد الله ويثني عليه، يبين فضل جمع الصف ويستعرض الآيات والأحاديث التي تحض عليه، ثم يعدد مزايا الأمير ومناقبه، ويبلغهم بأصول دعوته، ويرد على شبهة من يقول كيف نبايع من لا نعرفه؟ أو هل تصح بيعة من لم يبايعه عامة الناس؟ الفرق بينهم وبين رسل أبي العباس عبدالله السفاح وهم يدعون الناس لدعوتهم، أن أصحابنا يصورون البيعات بين رجال ملثمين وينشرونها على «آنستغرام» و «تويتر»!
أترككم مع هذا النص من كتاب «مدّوا الأيادي لبيعة البغدادي» لأبي همام بكر بن عبدالعزيز الأثري – يقال إنه شاب بحريني – والذي يوضح بعضاً من تجلياتهم…
«إلى الأبطال الميامين، فرسان الميادين، من باعوا الدنيا للدين، إلى أسود الساحات، رافعي أفضل الرايات، والماضين رغم الشبهات، إلى مجلس الشورى في الدولة، وإلى وزرائها وقاداتها وجنودها، إليهم جميعاً: نصيحتي لكم، وليس مثلي ينصح مثلكم، عليكم بطاعة الأمير في المعروف، مهما اشتدت الأمور وتعسرت الظروف، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً».