ما الذي تريده إيران وهي تنشط يمنة ويسرة، وتدفع من أجل ذلك كلفة باهظة يتحملها شعبها الذي يعاني مثل معظم الشعوب الإسلامية الفقر والمرض، على رغم النفط الهائل الذي يجري من حولها؟ إنها تخطط بجهد ودأب شديدين لتأكيد قوتها ونفوذها، مستعدة أن تقاتل في سورية، تتآمر في العراق، تخرب علاقاتها مع السعودية وبقية الجيران، تضغط على الغرب تارة وتخاتله تارة أخرى، فما الذي تريده من كل هذا وتحديداً خارج حدودها وتاريخها؟
من السهل الإجابة عن سؤال ما الذي أرادته بريطانيا من الهند؟ ذلك أنها كانت استثماراً رائعاً، واضحاً وجلياً، عاد على الخزانة والبلاط ورجال المال والسياسة الإنكليز بخير وفير، ما جعلهم يتمتعون بأسلوب حياة أرستقراطي ممتع، وبالسياق نفسه نفهم سبب احتلال بريطانيا لعدن، فبقية اليمن الجنوبي، ثم مشيخات الخليج، إلى مصر، كان كل ذلك لأجل الهند.
بالمنطق نفسه يمكن تفسير حماقة صدام حسين في غزوه الكويت، لقد رآها «خزانة مال» وبئر نفط هائلة يحل بها كل مشكلاته الاقتصادية التي تسبب فيها بحماقاته الأخرى مثل حربه مع إيران، وقبل ذلك تفكيك مجتمعه واقتصاد بلده الثري. ولكن لماذا أرسل عبدالناصر جيشه إلى اليمن في مغامرة أدت إلى تدمير الجيش والاقتصاد معاً؟ إذ لم تكن هناك مكاسب اقتصادية لمصر – أو لنقل لعبدالناصر – فمصر اختفت يومها في شخصه. لن أجد سبباً غير «ايغو» (ego) الزعيم، ذلك الشاب الذي يريد أن يقود الأمة العربية ويصنع مجداً شخصياً له. لم يكن هناك في جبال اليمن مكاسب اقتصادية ولا نفوذ استراتيجي لمصر.
الحال نفسها أراها عند محاولة الإجابة عن سؤال: ما أهمية سورية لإيران؟ لن يستقيم هنا التفسير الاقتصادي الاستعماري القديم، والذي على رغم «لا أخلاقيته» فإنه سبب أفضل للمواطن الإيراني، مما يقال له الآن لتبرير البلايين التي تهدرها حكومته بعيداً في بلاد الشام، فلا مكاسب اقتصادية لإيران في سورية ولا في لبنان ولا في اليمن.
حاول الباحث الأسترالي الجاد روجر شانا هان في ورقة نشرها مركز كارنيغي قبل أسابيع أن يجعل من «مقام السيدة زينب» سبباً للاهتمام الشيعي (العالمي) بسورية، وذلك في معرض إجابته عن سؤال جعله عنواناً لمقالته «ماذا تعني سورية لشيعة المنطقة؟»، فعجز عن تقديم إجابة أفضل من أن سورية «امتداد استراتيجي لنفوذ إيران في المنطقة، وضرورية لضمان خط إمداد لحزب الله في لبنان، الذي يعد أقوى تجليات الثورة الإسلامية».
ولكن هذه «أهداف سياسية»، ولا تبرر الكلفة الباهظة التي يتحملها الاقتصاد الإيراني، ودفاعه المستميت عن نظام بشار الأسد، ولا تبرر أيضاً تدخلاتها في اليمن. العراق وحده يوفر حافزاً اقتصادياً للتوغل الإيراني فيه، فهو ثري يدر مكاسب هائلة لبعض رجال الحكم في طهران، وذلك بالشراكة مع رجال حكومة نوري المالكي الذين تحولوا إلى مجرد تابعين لإيران، ولكنه بالتأكيد ليس بالمال الحلال ولا المستدام، فهو فساد وظلم فاحش يدفع ثمنه الشعب العراقي فقراً وجهلاً وتردياً هائلاً في أبسط الخدمات.
هل تسعى إيران إلى فتح أسواق لها ولمنتجاتها وشركاتها في تلك الدول؟ نعم إنها تفعل ذلك، ولكن على طريقة الاتحاد السوفياتي والدول التي كانت تدور في فلكه الشيوعي، ولكن حتى لو كان ذلك مبرراً اقتصادياً فإنها لا تحتاج إلى تأسيس أحزاب ميليشياوية صلبة مدربة وصعبة المراس مثل «حزب الله» في لبنان، ولا أن تموّل وتسلح تياراً عقائدياً مثل الحوثيين، كما أن تهريب أسلحة إلى نيجيريا لا يصب في سياسة فتح الأسواق. في المقابل نجد أن السعودية وتركيا مثلاً تفتحان أسواقاً في بلدان الشرق الأوسط، ولكن لم تحتاجا يوماً إلى تشكيل ميليشيات.
ماذا لو كان محرّكها نشر المذهب الشيعي في المنطقة والعالم الإسلامي؟ هذه حقيقة، وهي مستعدة لتحمل تبعاتها، فهي تعلم أن ذلك محل ضيق كثير من الدول، وجلب عليها احتجاجات من ماليزيا حتى المغرب، إلا أن من الممكن تبرير ذلك بأنه واجب أي دولة عقائدية، ولكنها لا تحتاج ميليشيات وتدريباً وشبكات سرية لذلك. السعودية تصرف على الكثير من المدارس والمساجد حول العالم بكل شفافية ووضوح، وكذلك تفعل مصر وأزهرها، ولكن من دون ميليشيات وحسابات سرية.
إذاً ما الذي يحرك إيران ويحفز شهيتها لـ «الهيمنة»؟ سيقول قائل: هذا دأب إيران منذ زمن الشاه الذي أراد يوماً أن يكون شرطي الخليج، وإنها نزعة شرقية قديمة مثلما فعل عبدالناصر وصدام حسين وغيرهما. كل المؤدلجين يريدون «الهيمنة»، ولكن إيران الحالية دولة براغماتية، والهيمنة وفق قواعد الزمن الاستعماري باتت فكرة بالية، وقد تغيّر الزمن ولم يعد الخليج في حاجة إلى شرطي بعدما حضر الشرطي الأميركي، والأفضل للإيرانيين بما عندهم من أيدٍ عاملة ماهرة تبحث عن عمل، ومصانع تبحث عن أسواق، أن يتبنوا النموذج التركي الذي يمارس «الأعمال» لا الهيمنة، وبها مد نفوذه في المنطقة، ولكن الإيرانيين يبحثون عن شيء آخر. فما هو؟
وجدت بعضاً من الإجابات في ما جمعه الدكتور حمد العيسى في كتابه «زمن الفتنة: شيعة ضد سنّة.. وسنّة ضد شيعة» من ترجمات لباحثين حول هذه المسألة الشائكة، وانتهيت إلى أن «الأصولية» هي ما يحرك آيات الله هناك. إنه حلم ببناء الدولة الإسلامية التي تستعد لاستقبال «مهدي منتظر»، إنهم يريدون تسهيل مهمته، لا ينتظرونه حتى يقيم دولة الخلافة ويقيم العدل بين الناس ويمنع الظلم كما يفعل عوام المسلمين من سنّة وشيعة، ولكنهم يأخذون زمام المبادرة مثلما يفعل أصوليون مثلهم مهووسون بالخلافة مثل حزب التحرير، وبعض «الإخوان» والسلفيين. الفرق أن هؤلاء لم يتمكنوا من دولة ولا يزالون في أطوار التكوين. تخيّل لو وصل زعيم «حزب التحرير» إلى الحكم في بلد سني ثري بالنفط، سيفعل بالتأكيد مثلما يفعلون في طهران.
عندما تنشط الأصولية السنية في محيطها الطبيعي، مثل «إخوان» مصر أو تونس، يكون صدامها مع من يخالفها سياسياً أو فكرياً وليس «طائفياً». ولكن عندما نشطت «الأصولية الشيعية» خارج محيطها، فلا بد من أن يكون صدامها «طائفياً» إذ هو شيعي ضد سنّي أو العكس.
مشكلة الأصولية الإيرانية أو الشيعية، أنها لم تكتفِ بالنصر الذي حققته بالوصول إلى السلطة في إيران حيث محيطها الطبيعي، وإنما مضت تنشط خارجه، حيث الغالبية الساحقة التي تختلف عنها، ولكنه ضعف الآخرين أو تفرقهم الذي أغراها أن الزمن زمانها، وتحقيق أهدافها «الأصولية» بتصحيح ما تراه تاريخاً إسلامياً عمره 1400 عام. ظلم أهل البيت وشيعتهم في معاندة للفكر الشيعي التقليدي الذي ترك هذه المهمة لـ «زمن المهدي» ولم يكن ذلك فقهاً منه فقط، ولكن إدراكاً لواقع جيو – سياسي، فالسعي لإقامة دولة الشيعة الكبرى في ظل الواقع القائم يعني أن تواجه الأقلية الشيعية غالبية إسلامية تفوقها تعداداً أضعاف المرات.
في خارج إيران كل العالم الإسلامي نقاط تماس للأصولية الشيعية، حتى العراق، الذي يستعجل البعض بجعله كتلة شيعية. نعم ثمة غالبية شيعية إذا ما استبعد الأكراد، إلا أنها ليست كافية أن تجعل منه شيعياً. المنطق والعقل والتاريخ يقول إن «العلمانية» هي الأفضل للعراق، وهي التي ستحفظ حقوق الشيعي والسني، أما إذا أصرّ أحدهم على غير ذلك فإنه يدفع العراق إلى التقسيم، وذلك ما هو حاصل حالياً.
سورية لم تكن يوماً شيعية لتحارب إيران فيها بكل هذه الشراسة. إنها تحارب للدفاع عن نظام أقلية ديكتاتوري لا يمكن أن ينتصر إلا بالقوة، ولن يحكم إلا بالقوة أيضاً، إنها حال غير مستدامة، إلا إذا اعتقد الأصوليون الإيرانيون أنهم قادرون على تشييع غالبية الشعب السوري المتعصب لسنيته، والذي ازداد تعصباً لها خلال أعوام الحرب ضد بشار.
هذا الحلم بتشييع سورية من أهم أسباب الفتنة الطائفية التي نعيشها، ولكن طهران تتعامل مع سورية وكأنها ضاحيتها الخلفية، تستميت في الدفاع عن بشار الأسد ونظامه، بل تشارك في القتال بخبراء ومتطوعين فاق تعدادهم بمراحل المقاتلين السنّة من غير السوريين الذين سلطت عليهم الأضواء أكثر.
حتى حجة مواجهة التكفيريين في سورية غير مقنعة، فهؤلاء مشكلة الغالبية السنّية في سورية قبل أن تكون مشكلة للشيعة، وقتلَ التكفيريون من السنّة أكثر مما قتلوا من الشيعة والعلويين.
لدينا نحن المسلمين – سنة وشيعة – من المشكلات والتحديات ما يكفينا، نعاني جميعاً التخلف والجهل والمرض والتعصب والاستبداد. كلنا دول عالم ثالث متخلّف، ولو توقف الصراع بيننا فلن تبتسم لنا الحياة، ولن تشرق شمسنا، ولا يزدهر ربيعنا. كل ما سيحصل أننا سنستطيع حينها أن نواجه حقيقتنا المظلمة كما هي.