سورية، فهي بكل بساطة ووضوح «تظهر غير ما تبطن»، فالتصريحات الأميركية المتكررة الرافضة لنظام بشار الأسد تتناقض تماماً مع ما يجري على الأرض، ما أثار غضب السعوديين الذين يريدون نهاية سريعة للأزمة، ورفضاً لما يعتقدونه موقفاً أميركياً مسوّفاً ولامبالياً يفضي إلى إطالة أمد الصراع، من دون اهتمام بتداعياته و«طفحه» على دول المنطقة.
يظهر التناقض الصارخ في الموقف الأميركي مع مسألة تسليح المعارضة، فبينما تعارض أميركا سراً رغبة حليفتها السعودية في رفع نوعية التسليح للثوار السوريين، بل وتمنعها من إرسال بعض الأسلحة النوعية بحكم عقود البيع التي تحرم تحويلها إلى طرف ثالث، فإنها لا تفعل شيئاً بخصوص تسليح النظام السوري من روسيا عبر إيران والعراق. المرة الوحيدة التي تدخلت فيها كانت لنصرة إسرائيل في رفض تسلم دمشق منظومة صواريخ الدفاع الجوي «إس300»، بل إنها لم تحاول منع مشاركة عشرات الآلاف من مقاتلي «حزب الله» والمتطوعين العراقيين الشيعة بالحرب في سورية، على رغم أن لديها تفاصيل وافية عن دور «الحرس الثوري» الإيراني وقائده قاسم سليماني في الحرب، ومسؤولياته المباشرة فيها.
لا بد من أن السعودية غير مقتنعة بالإجابات الأميركية، كالقول بأنهم لا يملكون منع «حزب الله» أو «الحرس الثوري» الإيراني وكلاهما قوتان مناوئتان لها من دخول سورية، فالرياض تعرف وبالتفصيل مدى النفوذ الأميركي في العراق، الذي بات المصدر الأساسي للأسلحة القادمة عبره من إيران، وكذلك للمتطوعين. كما أن إسرائيل لم تتردد في ضرب أهداف داخل سورية لعناصر من «حزب الله» و»الحرس الثوري» وجدت فيهم تهديداً لمصالحها من دون أي رد فعل ذي بال من النظام وحلفائه، فإذا كانت إسرائيل تستطيع ذلك، فإن واشنطن قادرة على ذلك، بخاصة أن الأردن سهّل عليها المهمة، وعرض على إدارة أوباما السماح لهم باستخدام قواعد أردنية لضرب أهداف للنظام بطائرات من دون طيار، ولكنهم رفضوا هذا العرض الذي تكرر مرات عدة، وتم بالتنسيق مع السعوديين بحسب ما يؤكد مصدر مطلع.
المفارقة الأخرى أن الولايات المتحدة متوافقة تماماً مع التحليل السعودي لخطر تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» على أمن المنطقة، والذي ينشط في اليمن منه، وثمة تعاون مشترك بينهما على محاربته، ولكنها غير مهتمة بخطر «القاعدة» في سورية والذي تفاقم بوصول النسخة الأصلية من «القاعدة»، وهو تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» الذي لا بد من أن السعودية تراه تهديداً خطراً لأمنها، ويشترك معها في ذلك الأردن وتركيا.
إن استقرار هذا التنظيم في سورية هو إقامة شبكة صواريخ باليستية هناك يمكن أن تصل إلى كل دول المنطقة، وأقصد هنا «القوة الانتحارية» الذي يتمتع بها تنظيم «داعش»، فهو قادر على إرسال انتحاريين إلى أي مدن المنطقة، وفعل ذلك مع حكومة إقليم كردستان عندما أرسل انتحاريين فجّروا أنفسهم وسياراتهم المفخخة في ستة مواقع بالعاصمة أربيل، لتحذيرها من دعم أكراد شمال سورية الذين يحولون دون أن يمد التنظيم سلطته على المنطقة كلها.
جاءت تفجيرات أربيل صادمة لدول المنطقة، ذلك أنها كانت حتى ذلك الوقت آمنة وتتمتع بأمن قوي، ولكن الخبراء يقولون إن صدّ صاروخ أرض أرض بشبكة «باتريوت» أسهل من صدّ انتحاري يعبر الحدود وحده، بينما تصل متفجراته من جهة أخرى، وما إن يتم توحيدهما فسيكون احتمال منعه من تنفيذ عمليته ضئيلاً جداً.
إن استقرار «داعش» في شمال سورية وترحيبها بالمقاتلين الأجانب سيجعلان منها نقطة جذب لشباب سعودي يحركه الغضب تجاه ما يحصل هناك من انتهاكات، مع تأثره بالدعوات الجهادية التي لم تختف في السعودية، وإنما نزلت تحت الأرض. قد تكون التقديرات التي تضع عدد السعوديين «المجاهدين» في سورية حوالى 4 آلاف مبالغاً فيها، وحصلت مثل هذه المبالغات في أفغانستان والبوسنة، ولكن حتى لو كان الرقم ربع ما ذكر، فإنه يظل رقماً كبيراً، وكفيلاً بأن يجدد نشاط «القاعدة» في السعودية بعدما تنفست الصعداء بنجاح السلطات الأمنية في تحجيمه، وهو ما أدى إلى توقف عملياته تماماً في السعودية، ولكن ثمة ما يدعو إلى القلق، فالسعوديون في سورية يتعمدون إخفاء تعدادهم الحقيقي، ويتحاشون الظهور الإعلامي على خلاف ما عرف عن «القاعدة» الذي يستفيد من دعاية أشرطة «يوتيوب» وقصص البطولات لتجنيد آخرين، كما يقول خبير بالوضع هناك، ويعمل مع الأمم المتحدة، ويضيف: «قد ترى أفلاماً أكثر للشيشانيين أو الليبيين ولكنهم أقل بكثير من السعوديين الذين أجزم أنهم ثالث أكبر مجموعة بعد الأردنيين والفلسطينيين المقاتلين في سورية… ابتعادهم عن الظهور الإعلامي مثير للقلق».
ربما يكون لعلمهم أن خروجهم إلى القتال في سورية مخالف لتعليمات الدولة، ولكنهم بالتأكيد يعلمون أيضاً أن الأمن السعودي غير خاف عليه من ذهب إلى القتال هناك، وأنه سيوقفهم فور عودتهم، و«القاعدة» تعلم ذلك جيداً، وبالتالي ستستغل هذه الحقيقة ليكون هؤلاء مخزوناً وفيراً للتجنيد والعمل السري في مرحلة ما بعد سورية، ومن يعرف «القاعدة» يعلم أن هناك دوماً مرحلة ما بعد سورية، وما بعد أفغانستان، وما بعد العراق.
كل هذه المخاوف السعودية لن يداويها غير إنهاء الأزمة السورية بوقف الحرب التي باتت توفر الأرضية المناسبة لـ«القاعدة» وإيران لمد نفوذهما، كل بحسب طريقته وتبعاً لأهدافه، وكلاهما غير صديق للسعودية، ولكن التسريبات الصحافية الأخيرة في الصحف الأميركية التي كشفت أن إدارة أوباما ليست غير مهتمة فقط، بل تريد للأزمة أن تطول، لا بد من أنها ستعمق الخلافات السعودية – الأميركية.
المفاجأة المؤلمة جاءت في ما نقلته «نيويورك تايمز» الأربعاء الماضي عن كبير موظفي البيت الأبيض دينيس ماكدنو الذي قال لأعضاء من الكونغرس: «إن الوضع في سورية يمكن أن يُبقي إيران مشغولة أعواماً عدة»، ثم أضاف: «القتال في سورية بين حزب الله والقاعدة قد يكون في مصلحة الولايات المتحدة».
تصريح يذكر بالمواقف «الإمبريالية» التي سادت الخمسينات الميلادية حينما كانت مصالح تجار السلاح وشركات النفط هي التي تحدد السياسة الأميركية الخارجية، من دون أدنى اعتبار لحقوق الشعوب ومصالحها.
نحن لسنا ملائكة، ولكن لا يمكن أن نكون أشراراً لهذا الحد، فالذي سيدفع ثمن سياسة كهذه هو الشعب السوري والمنطقة بكاملها، والحرب بين «القاعدة» و»حزب الله» لن تبقى بينهما فقط، وإنما ستجر دول المنطقة وجيوشها.
قد يكون إصلاح برنامج الرعاية الصحية في الولايات المتحدة أهم للرئيس الأميركي أوباما من الجحيم السوري – وهذا الوصف استخدمه أوباما نفسه – ولكن سورية يمكن أن تكون نعيمنا أو جحيمنا نحن السعوديين، لنفعل شيئاً ولو منفردين، فمهما كانت كلفته اليوم فهي أقل مما سندفعه بعد ثلاثة أو أربعة أعوام.