تل أبيب تكرّر أخطاء 2006 و2008
اغتيال القادة والاجتياح والقصـف.. تكتيكات إسرائيلية انتهى مفعـولها
في ردها على تبادل القذائف بين غزة واسرائيل، قررت هذه الأخيرة زيادة وتيرة العنف عن طريق اغتيال قائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) العسكري، احمد الجعبري. فيما بادرت «حماس» إلى اطلاق مئات الصواريخ باتجاه اسرائيل وقع بعضها قرب تل ابيب.
ثمة احتمال أن تتحول هذه العملية التي اطلقت عليها اسرائيل «عمود السحاب» الى حرب شاملة، لكن حتى لو حدث ذلك فإنها لن تضع نهاية لمشكلات اسرائيل في غزة. فقد شنت اسرائيل حرباً مدمرة ضد «حماس» في شتاء عام 2008 ـ 2009، التي اطلقت عليها «الرصاص المصبوب»، لكن «حماس» لاتزال تطلق الصواريخ ضد اسرائيل.
وفي صيف عام 2006 قامت اسرائيل بحرب ضد «حزب الله» كي تقضي على تهديد صواريخه وتضعف موقفه السياسي في لبنان. لكن الهجوم الإسرائيلي على لبنان فشل ايضا، ولايزال «حزب الله» يمتلك من الصواريخ اكثر مما كان يمتلكه في عام 2006، كما ان نفوذ الحزب في لبنان اصبح اكبر، ومن المتوقع ان يكون مصير «عمود السحاب» مماثلاً.
وتستطيع اسرائيل استخدام القوة ضد «حماس» بثلاث طرق مميزة، أولاً تستطيع محاولة اضعاف المنظمة عن طريق اغتيال قادتها، كما فعلت عندما قتلت الجعبري، لكن ذلك لن يجدي نفعاً لأنه ليس هناك نقص في الأشخاص الذين يحلون مكان القادة المقتولين، وأحياناً يكون القادة الجدد اكثر قدرة وخطراً من سابقيهم.
وقد اكتشف الإسرائيليون ذلك في لبنان عام 1992 عندما قتلوا عباس الموسوي فجاء مكانه حسن نصرالله الأكثر خطراً منه.
ثانياً يستطيع الإسرائيليون اجتياح غزة والاستيلاء عليها، ويمكن لجيش اسرائيل ان يقوم بذلك بسهولة، وعندها يتعين على اسرائيل احتلال القطاع لسنوات اخرى عدة، لأنهم اذا غادروا غزة ستعود «حماس» الى السلطة فوراً، وسيتم استئناف اطلاق الصواريخ وسترجع اسرائيل من حيث أتت. وبالطبع فإن احتلال غزة سيثير مقاومة ضارية ودموية، وقد تعلم الإسرائيليون ذلك لمدة 18 عاماً من بقائهم في جنوب لبنان، حيث أقروا بالهزيمة وسحبوا قواتهم. ولهذا السبب لم يعمد الجيش الإسرائيلي الى احتلال جنوب لبنان مرة ثانية عام 2006، او غزة عام 2008.
ولم يتغير اي شيء منذ ذلك الوقت علاوة على أن احتلال غزة سيجعل 1.5 مليون غزي تحت السيطرة الفعلية لإسرائيل، الامر الذي سيثير «التهديد السكاني»، وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، اريل شارون، قد سحب المستوطنين الإسرائيليين من غزة عام 2005.
ثالثاً يمكن لإسرائيل ان تقوم بحملة قصف جوي أو بالصواريخ او المدافع، لكن هذه الاستراتيجية لم تنجح عندما استخدمتها اسرائيل لضرب «حزب الله» عام 2006 و«حماس» بعد عامين، إذ إن كلتا الجماعتين لاتزالان موجودتين وتمتلكان الصواريخ، واستناداً الى ما سبق ما الهدف من هذه الحروب؟
في واقع الأمر أن ما تهدف اليه اسرائيل من خلال تصرفاتها هذه هو تشكيل اسرائيل الكبرى التي تمتد ما بين نهر الأردن الى البحر المتوسط، على الرغم من الحديث المتواصل عن حل الدولتين، إلا أن الفلسطينيين لن يحصلوا على دولتهم، ليس لأن حكومة نتنياهو ترفض ذلك.
ومن المعروف ان رئيس حكومة اسرائيل وحلفاءه السياسيين ملتزمون بشدة بجعل الأراضي الفلسطينية المحتلة جزءاً من اسرائيل، واذا نجحت في ذلك فإن الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة وغزة سيجبرون على العيش حياة الفقر والعوز في كانتونات شبيهة بما كان عليه الحال إبان حكم البيض لجنوب افريقيا. ويفهم يهود اسرائيل ذلك بصورة جيدة، ففي احصائية اخيرة قال 58٪ منهم انهم يعتقدون ان اسرائيل تمارس الأبارتهايد (الفصل العنصري) ضد الفلسطينيين.
وبالطبع فإن تشكيل اسرائيل الكبرى سيوجد مشكلات اكبر، فبالإضافة الى الأضرار الكبيرة التي ستلحق بسمعة اسرائيل في شتى انحاء العالم، فإن ذلك لن يؤثر في عزيمة الفلسطينيين، وسيظلون رافضين ليس العيش تحت احتلال اسرائيل وانما فكرة العيش في دولة تمارس الأبارتهايد ايضا، وسيواصلون مقاومة محاولات اسرائيل انكار حقهم في تقرير مصيرهم، وما يحدث في غزة الآن احد أبعاد هذه المقاومة.
وهناك بعد آخر الذي سيقوم به رئيس السلطة الفلسطينية عندما سيطلب من الأمم المتحدة في 29 نوفمبر الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو، وتثير هذه الخطوة قلق قادة اسرائيل، لأنها في نهاية المطاف يمكن ان تسمح للفلسطينيين بتقديم شكاوى ضد اسرائيل امام محكمة الجزاء الدولية.
ولدى اسرائيل استراتيجيتان للتعامل مع قضية الفلسطينيين، أولاً الاعتماد على الولايات المتحدة لتأمين الغطاء الدبلوماسي، خصوصاً في الأمم المتحدة، وذلك استناداً الى اللوبي الإسرائيلي، وثانياً، وهي مفهوم الزعيم الصهيوني زئيف جابوتنسكي «الجدار الحديدي»، وهي اسلوب يدعو الى ضرب الفلسطينيين حتى رضوخهم. وفهم جابوتنسكي ان الفلسطينيين سيقاومون الجهود الصهيونية لاستعمار ارضهم و اخضاعهم . وجوهر اسلوب جابوتنسكي هو انزال اشد العقوبات بالفلسطينيين حتى يعترفوا بأن اي مقاومة تعد بلا جدوى.
واستغلت اسرائيل هذا الأسلوب مع الفلسطينيين منذ عام 1948. وعمليتا «الرصاص المصبوب» و«عمود السحاب» ما هما الا امثلة لهذه الاستراتيجية الإسرائيلية. وبناء عليه فإن اسرائيل تهدف من خلال قصف غزة ليس إلى القضاء على «حماس» أو إلغاء خطر الصواريخ لأن كلا الهدفين لا يمكن تحقيقهما، وانما هما جزء من استراتيجية بعيدة الأمد لإخضاع الفلسطينيين للتنازل عن حقهم في تقرير المصير والخضوع لحكم اسرائيل في دولة ابارتهايد.
ويتجلى التزام الاسرائيليين بهذه الاستراتيجية من خلال اعلان العديد من قادة اسرائيل، بعد عملية «الرصاص المصبوب»، انهم سيعودون الى ضرب فلسطينيي غزة مرة ثانية. ومن السهولة بمكان توضيح توقيت هذه العملية، فأولاً فاز باراك اوباما بفترة رئاسية ثانية في اميركا على الرغم من الدعم العلني لنتنياهو لخصمه ميت رومني في الانتخابات.
ولذلك فإن هذا الخطأ من شانه ان يسيء الى علاقة اسرائيل بالولايات المتحدة. ولتصحيح ذلك كان لابد من شن هذه الحرب في غزة. ونظراً الى ان اوباما يواجه مشكلات اقتصادية مستفحلة وتحديات سياسية امامه خلال الأشهر المقبلة فليس امامه خيارات كثيرة سوى تأييد اسرائيل وإلقاء اللوم على الفلسطينيين.
ومن المؤكد ان عملية «عمود السحاب» لن تحقق اهدافها ولن تجعل الفلسطينيين يتنازلون عن حقهم في تقرير المصير ويرضون العيش في كانتونات تحكم على طريق الأبارتهايد، وبناء عليه فإنه ليس من المرجح ان تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تقوم فيها اسرائيل بقصف غزة.